مشكلة سواد المتديّنين في أيّامنا أنّهم: حيث يرون أنّ الخديعة والكذب والغدر الحاصل في الحروب المعاصرة مسألة عائدة إلى الذّكاء والفطنة والنّباهة، فيحسبون أنّ ما قام به الرّسول في حروبه ومعاركه وتوسّعاته، وما حثّ عليه خُلّص أصحابه، من ضرورة الخديعة وحتّى الكذب في الحروب، هي من هذا القبيل أيضاً، ولا يرون أيّ مانع ولا محذور في ممارستها والاحتذاء بها؛ فهي سنّة الرّسول وأصحابه الّتي ينبغي الامتثال لها ونشر الإسلام عن طريقها، بل وعلى غير أتباعه أن يصدّقوا أنّ دينه من أفضل الدّيانات أخلاقاً وتسامحاً ونبلاً حتّى مع الأعداء!!
مشكلة هؤلاء أنّهم يحسبون أنّ الدّين الإسلامي ورسوله وغزواته هو عبارة عن تجربة بشريّة لا تختلف عن غيرها من التّجارب البشريّة في تلك الأزمنة، ونجاحها وبسط نفوذها على بعض المناطق عائد إلى توظيف هذه الأساليب الّتي كان يتمتّع بها رموزه في ذلك الوقت، مع أنّ المفروض أنّنا نتحدّث عن دين سماوي خاتم نزل من أجل هداية البشريّة في طول عمود الزّمان، وصمّم لهم تشريعات خالدة ترتكز في الدّرجة الأولى على الأخلاق والقيم، بل هذا هو الّذي يتغنّى به هؤلاء البسطاء المتديّنون ليل نهار، ويتفاخرون به على التّجارب الدّينية الأخرى.
نحن نتمنّى من هؤلاء أن يشحذوا هممهم، ويوسّعوا آفاقهم، ويذهبوا صوب قراءة التّجربة الإسلاميّة الأولى في مصادرها الأمّ بعيون فاحصة خالية من الفلاتر والأحلام الورديّة الّتي لُقّنوا بها وتربّوا عليها، ويحاولوا الابتعاد عن الافراط في تسكين جروحهم وتخفيف آلام صدماتهم بأوهام أنّ التّاريخ قد كتبه الأمويّون والعبّاسيّون بقصد تحريفه، وأنّ السّيرة النبويّة دوّنت بعد وفاته بقرنين وفيها ما فيها من دسّ وتلاعب وتزوير؛ لأنّ هناك وقائع جزميّة وحتميّة على الأرض لا سبيل لإنكارها، تؤيّدها الآيات القرآنيّة نفسها الّتي لا يشكّ هؤلاء بصدقها، وعليها قامت فتاوى علماء الإسلام والمذاهب عموماً حتّى يومنا هذا، وبتوسّطها انتشر الإسلام وتوسّعت رقعته الجغرافيّة، وإنكارها إنكار للواضحات، فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
