#بعد أن استشار الحسين بن عليّ “ع” بني عقيل وأصرّوا على مواصلة الطّريق إلى الكوفة للأخذ بثأرهم، وبعد أن نقّح له أصحابه الفرق الكارزمي بينه وبين مسلم الأمر الّذي يوجب تغيّر المعادلة فور دخوله الكوفة، أقول: بعد جميع هذه الاستشارات الطّبيعيّة في العمل العسكريّ والّتي مارسها جدّه “ص” أيضاً، تحرّك حتّى وصل منطقة زبالة فوصله خبر مقتل عبد الله بن يقطر، فأخبر من معه بذلك، وتفرّق النّاس من حوله ولم يبق منهم سوى من خرج معه من المدينة ونزر يسير ممّن التحق به بعدها… .
#وهكذا حتّى وصل إلى منطقة تُسمّى بذي حسم ليلتقي بالحرّ الرّياحي وجيشه، وبعد تعارف ومجاملات طبيعيّة حان وقت صلاة الظّهر فتقدّم الحسين بن عليّ “ع” للصّلاة بجيشه وجيش الحرّ معاً لكنّه خطب قبل ذلك فقال:
#أيّها النّاس: إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا؛ فإنّه ليس لنا إمام؛ لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحقّ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم إلى المكان الّذي جئت منه إليكم».
#لم تؤثّر خطبة الحسين “ع” بهم، ولم تزعزع قناعتهم، وهم يريدون الائتمام به للصّلاة، وليسوا كفرة فسقة فجرة جاؤوا من وراء المحيط لسفك دم إمام إلهيّ مفروض عليهم، «فسكتوا عنه ولم يتكلّم أحد منهم بكلمة»، وهكذا حتّى حان وقت صلاة العصر فأمر «أمر الحسين بن علي “ع” أن يتهيئوا للرّحيل، ففعلوا، ثمّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقام الحسين “ع” فصلّى بالقوم»، وهذا يعني أنّ فكرة الجمع بين الصّلاتين كسلوك دائمي حتّى في السّفر إنّما هي اجتهاد بعدي مذهبي ولد لاحقاً.
#وبعد أن أتمّ الحسين بن عليّ “ع” الصّلاة انصرف إلى المأمومين خلفه: «فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد أيّها النّاس، فإنّكم إن تتقوا الله، وتعرفوا الحقّ لأهله، يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمد، وأولى [!!] بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسّائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلّا كراهية لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم».
#ومن الواضح: إنّ الحسين بن عليّ “ع” يتحدّث مع المئات خلفه بمنطق القرابة، وإنّه ما دام من أهل بيت محمّد فهم أولى بالخلافة من غيرهم، وهذا شيء آخر غير الإمامة الإلهيّة وأجنبيّ عنها تماماً فضلاً عن صيغتها الاثني عشريّة، لكنّ المفاجأة أنّ هؤلاء لم يكونوا يعلمون لا بحكاية الأئمّة من بعدي اثني عشر، ولا بفرضيّة حديث الثّقلين وتطبيقاته الإلهيّة المعروفة، ولا بالدّلالات المذهبيّة لحديث الغدير والمنزلة والثّقلين وأضرابها، بل ولم يكونوا يعلمون بالكتب والرّسائل الّتي نصّ الحسين بن عليّ “ع” على كونها هي من حرّكته وجلبته إلى الكوفة، ولهذا أقسم الحرّ ـ وهو صادق في قسمه ـ بأنّه لا يدري ما هذه الكتب ولا الرّسل الّتي يتحدّث “ع” عنها؛ فهو عسكريّ ينفّذ الأوامر الفوقانيّة الصّادرة من جهات عليا، ولهذا طلب الحسين من عقبة بن سمعان أن يُخرج هذه الكتب والرّسائل، «فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه».
#وبعد أن رأى الحرّ هذه الصّحف وربّما قرأ مضامينها أيضاً، بادر قائلاً: «إنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك حتّى نقدمك الكوفة على عبيد الله».
#وحينما سمع الحسين بن عليّ “ع” بذلك واجهه بعبارة صارمة قائلاً له: «الموت أدنى إليك من ذلك، ثمّ قال لأصحابه: قوموا فاركبوا فركبوا، وانتظر حتىّ ركب نساؤهم، فقال لأصحابه انصرفوا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين “ع” للحرّ: ثكلتك أمّك ما تريد؟ فقال له الحرّ: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال الّتي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثّكل كائنا من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل، إلّا بأحسن ما يقدر عليه، فقال له الحسين “ع”: فما تريد؟ قال: أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله بن زياد، قال [له الحسين “ع”]: إذاً والله لا أتّبعك، قال [له الحرّ]: إذاً والله لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات».
#نعم؛ ترادّا القول ثلاث مرّات كما هي الحالة الطّبيعيّة الّتي تحصل بين رجلين متخاصمين في حالة الشّجار والغضب يتطاير من وجوههما، ولمّا «كثر الكلام بينهما»، أراد الحرّ تقديم مقترح تسوية لتهدئة الغضب فقال: «إنّي لم أؤمر بقتالك؛ إنّما أمرت ألّا أفارقك حتّى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يُدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى الأمير، وتكتب إلى يزيد أو إلى عبيد الله، فلعل الله إلى ذلك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشيء من أمرك، فخذ هاهنا، فتياسرْ عن طريق العذيب والقادسيّة».
#وحينما رأى الحسين بن عليّ “ع” هذا المقترح حسناّ وتسوية منصفة بنحو من الأنحاء، سار «وسار الحرّ في أصحابه يسايره، وهو يقول له: يا حسين إنّي أذكرك الله في نفسك؛ فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال له الحسين “ع”: أ فبالموت تخوفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله “ص” فخوفه ابن عمه وقال أين تذهب فإنّك مقتول، فقال: سأمضي فما بالموت عار على الفتى… فلما سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسين “ع” في ناحية أخرى حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات». [الإرشاد: ج2، ص78ـ81؛ تاريخ الطّبري: ج5، ص401ـ403].
#هذا هو تفصيل الحوار والملاسنة الحادّة الّتي جرت بين الحسين بن عليّ “ع” والحرّ بن يزيد الرّياحي، ومنه نفهم مجموعة أمور أبرزها:
#أوّلاً: تيقّن الحسين “ع” بأنّ الاستمرار في طريق الكوفة يعني الذلّة والقتل، ولهذا فإنّ أفضل طريق هو العودة إلى المكان الّذي انطلق منه، وتجنّب هذه المخاطرة.
#ثانياً: تيقّن الحسين “ع” بأنّ الحرّ ليس من أولئك الّذين خاطبوه وراسلوه وبايعوه أيضاً، بل ربّما برّأ القطعات العسكريّة الّتي كانت تحت أمرته، وتفهّم أنّها تتبع جهات عليا وليس لهم علاقة بدعوته إلى الكوفة ومن ثمّ خذلانه.
#ثالثاً: الملاسنة الحادّة الّتي حصلت بين الحسين “ع” والحرّ تكشف كشفاً واضحاً عن أنّه “ع” شعر بأنّ الطرف المقابل يُريد إذلاله وقتله، ولهذا كانت مسايرته إلى الكوفة وإدخاله على عبيد الله بن زياد هي الخطّ الأحمر الّذي رفضه حتّى آخر لحظة من حياته رغم تقديمه عدّة خيارات وتنازلات أخرى.
#رابعاً: الملاسنة أعلاه تدحض بقوّة بالغة فرية إلقاء الحجّة الّتي يُروّج لها دعاة نظريّة أنّ الحسين “ع” قصد الكوفة وهو عالم بشهادته في كربلاء وبلحظتها أيضاً؛ وذلك لأنّ البيان الّذي قدّمه الحسين “ع” لجيش الحرّ لم يتوفّر على أبسط مقوّمات الحجّة أيضاً؛ فالكتب والرّسائل هم غير مسؤولين عنها، وكونه ابن بنت الرّسول أيضاً لا ينتج أحقيّته بالخلافة السّياسيّة وبطلان خلافة من بايعته الأمّة، كما أنّ الحسين “ع” نفسه لم يكن بصدد البيان من هذه الجهة لكي يصحّ التمسّك بإطلاق كلامه لشمول هذه الأوهام المذهبيّة المنبريّة الّلاحقة، ولهذا اقتصر في بيانه على منطق القرابة المنسجم مع أفق ولحظة تلك المرحلة لا غير، أمّا انتقال الحرّ إلى معسكره فيما بعد فهو لا يرجع إلى الحجّة المتقدّمة الّتي طرحها الحسين “ع” قبل ملاسنته له، وإنّما يعود لقناعته بمظلوميّته كإنسان لا يُريد القتال ويحاول الآخرون إذلاله، وإحساسه بأنّ ما وصل إليه الحسين “ع” سببه تلك الجعجعة والمحاصرة الّتي قام بها، وأين هذا من تماميّة الحجّة!!
#سنتابع إكمال مسيرة الحسين بن عليّ “ع” ومفاوضاته وتنازلاته في البحوث القادمة؛ لنلاحظ كيف تطوّرت وكيف توسّعت وكيف آلت نهاياتها، وبذلك نعمّق فكرة: أنّ الحسين بن عليّ “ع” ما خرج من مكّة إلى الكوفة إلّا بسبب رسائل أهل الكوفة الّتي منّته بالخلافة ودعته إليها، وإنّ ما يُشاع من حكاية أنّ خروجه كان بسبب الهندسة السّماويّة الّتي خطّطت له الخروج والموت والقتل في ذلك اليوم لإحياء الأمّة… ما هو إلّا كلام مذهبيّ متأخّر فاسد وظّفت وولّدت وحُشّدت عشرات النّصوص والطّقوس والأساطير في سبيل تعميقه، وقد وفّقوا في ذلك، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الحسين_المذهبي