محمّد الصّدر وفقدان الاصطلاح الفلسفي!!

#تنوّع الفلسفةُ اليونانيّة وأتباعها الماهيّةَ إلى: جوهر وعرض، وتعدّ هذين القسمين وما يقع تحت الثّاني منهما مقولات عالية لا جنس ولا فصل لها، وهي المعبّر عنها في عرفهم بـ: “المقولات العشر”، ويُعدّ الكيف أحد أقسام العرض المعروفة، والإرادة تندرج عندهم في قسم الكيفيّات النفسانيّة وهو أمر واضح ومشهور، ولهذا قرّر صدر الدّين الشّيرازي المتوفّى سنة: “1050هـ” في كتابه المعروف بالأسفار: «فصلٌ في الإرادة، وهي في الحيوان من الكيفيّات النفسانيّة، ويشبه أن يكون معناها واضحاً عند العقل غير ملتبس بغيرها، إلّا أنّه يعسر التّعبير عنها بما يفيد تصوّرها بالحقيقة…». [الحكمة المتعالية: ج4، ص113]، نعم؛ تنظّر بعضهم في عدّ الإرادة الحقيقيّة من الكيفيّات النّفسانيّة، وأنّ تسميتها بذلك ناشئ من المسامحة في التّعبير، والصّحيح عندهم: أنّها نسبة نفسانيّة، وهذا حديث آخر ليس هنا محلّ ذكره. [حاشية الطّباطبائي على الكفاية: ص77؛ 138].
#وبعد وضوح هذه المقدّمة المُجملة والمضغوطة أقول: لقد وظّف علماء أصول الفقه مثل هذه الاصطلاحات في بحوثهم كثيراً، فمنها: النّزاع الحاصل بينهم في اتّحاد الطّلب مع الإرادة أو تغايرهما، ومنها: الأقوال في تفسير حقيقة الوجوب، ومنها: غير ذلك، وفي سياق الحديث عن البحث عن حقيقة الوجوب، وفي أثناء حديثه ومناقشاته للأقوال في مبحث الضدّ العامّ، أفاد المرحوم الخوئي في ملاحظاته على القول الذّاهب إلى أنّ الأمر بالشّيء يتضمّن النّهي عن ضدّه العامّ بأنّ المنع من التّرك لم يؤخذ في حقيقية الوجوب مهما كان المبنى المختار في تفسيرها، فإذا قلنا إنّه إرادة نفسانيّة فسيكون من الأعراض، وهي بسائط خارجيّة، وإذا قلنا إنّه حكم عقليّ فهو من الأمور الانتزاعيّة العقليّة الّتي تكون أشدّ بساطة من الأعراض وبالتّالي فلا جنس ولا فصل لها، وإذا اخترنا أنّه مجعول شرعيّ فهي أيضاً في غاية البساطة ولا يُتعقّل وجود جنس أو فصل لها. [المحاضرات: ج3، ص47ـ48، ط النّجف].
#لكنّ المُفجع والمؤسف: أنّ الرّاحل الشّهيد محمّد الصّدر قد سخر كثيراً من المرحوم الخوئي لتعبيره بأنّ الإرادة عرض، قائلاً في مجلس درسه ما نصّه: «حسب الظّاهر مدوّر [يعني الخوئي] في الكتب الكلاميّة وناقلها من الكتب الكلاميّة، وربّما بعض المتكلّمين يدّعي أنّ الإرادة من الأعراض [!!]». [مجلس درسه الأصولي].
#وهنا أسأل: هل حقّاً أنّ صاحب هذا الكلام يدّعي الأعلميّة على عموم مجايليه وأساتذته الأموات أيضاً وهو لا يعرف معنى كون الإرادة عرض والّذي هو أمر مبثوث في الكتب الأصوليّة في مرحلة السّطوح فضلاً عن بحوث الخارج ناهيك عن كونها أحد بدهيّات ما يُسمّى بالفلسفة الإسلاميّة؟! حقّاً إنّه عجب عجاب!!
#وبعد أن فاجأنا المرحوم الشّهيد محمّد الصّدر بعدم معرفته معنى العرض وسخريته من المرحوم الخوئي لتوظيفه، عاد يتساءل عن تعريفه فقال ما نصّه: «ما هو تعريف العرض لكي ينطبق على مفهوم الإرادة وحقيقته بالحمل الشائع؟ فإنّ العرض عرفاً هو العرض المادي كالّلون والثّقل والكثافة والّليونة، فلا تكون الإرادة عرضاً؛ لكونها مجردة عن المادّة، وإن عمّمنا معنى العرض إلى المجرّد، وقلنا: إنّ المجرّدات فيها عارض ومعروض، لم تكن الإرادة عرضاً للنفس بل معلولاً لها، ولها وجود منحاز عنها بمعنى من معاني الانحياز والاستقلال، وليست هي عين النفس بهذا المعنى. [مجلس درسه الأصولي].
#وهذا الّلون من الاعتراض والبيان مخيّبٌ للغاية؛ إذ إنّ العرض بالاصطلاح الفلسفي ماهيّة إذا وجدت في الخارج وجدت في موضوع مستغنٍ عنها، وعلى هذا الأساس: فإذا كانت الإرادة من الكيفيّات النّفسانيّة فهي إذا وجدت في الخارج فلا بدّ وأن توجد في موضوع مستغنٍ عنها، ومن خواصّها عدم تعلّقها أو حلولها في الأجسام، وليس لهذا التّقسيم نظر إلى الماديّة والمجرّدة بالمعنى المتبادر إلى الذّهن البسيط، لكي يُقال: إنّ الإرادة مجرّدة خارجة عن العرض المادّي، كما ليس له نظر إلى منشآت النّفس ومعاليلها ولا إلى الإرادة الحقيقيّة أيضاً؛ لأنّ المرحوم الخوئي بصدد إيضاح بطلان القول بالتضمّن على كلا المباني المطروحة في تفسير حقيقية الوجوب، وليس من الصّحيح مناقشته في مبنى لا يختاره، على أنّ الأمثلة الّتي ذكرها تُعدّ من الكيفيّات المحسوسة، والإرادة من الكيفيّات النّفسانيّة فتنبّه ولاحظ.
#ولم يكتف الرّاحل الشّهيد محمّد الصّدر بمثل هذه البيانات النّاشئة من عدم وقوفه على مراد عبارة المرحوم الخوئي الواضحة، بل نصّ على أنّ المفترض به أن يضيف إلى ما ذكره من مستويات ثلاثة مستوى رابع أسبق منهم وهو عالم الجعل، حيث حسب أنّ الخوئي يتحدّث عن مبادئ الحكم الثّبوتيّة والإثباتيّة وليس عن المباني المعروفة في تفسير الوجوب.
#ولم تقتصر الأخطاء على هذا الحدّ، بل عاد الصّدر ليسجّل إشكالاً ثالثاً لا يقلّ فداحة عمّا قبله، حيث قرّر قائلاً ما مضمونه: اكتفى الخوئي بالتّعبير عن الأعراض بكونها بسائط خارجيّة، وإذا كان مقصوده خلوّها من الجنس والفصل بقرينة كلامه الّلاحق فهذا خطأ أيضاً؛ لأنّ للإرادة جنساً وفصلاً؛ باعتبارها من جملة عالم التّكوين، وتدخل في المقولات العشر، وليست اعتباريّة ولا انتزاعيّة، وإذا كان كلّ ما له جنس وفصل مركّب فهي مركّبة، وأضاف أيضاً: أنّ الأعراض الخارجيّة لها جنس وفصل، وأنّ الألوان لها جنس وفصل، وإذا كانت الأعراض أساساً ليست بسيطة وهي ماديّة، فكيف بالأعراض المعنويّة أو الرّوحيّة أو النفسيّة؟!
#ولا يسعني إخفاء ذهولي وأنا أقرأ مثل هذه النّصوص المخالفة لاصطلاحات القوم الواضحة والجليّة والمبثوثة والمنشورة في تراثهم؛ إذ يبدو لي أنّ المرحوم الشّهيد محمّد الصّدر لم يمرّ عليه يوماً ما أنّ الأعراض الّتي يتحدّث عنها المرحوم الخوئي هي من الأجناس العالية الّتي لا جنس فوقها، وهي بطبيعة الحال غير مركّبة من جنس وفصل خارجاً؛ وإلّا لكان هناك جنس أعلى منها، وهو خلف افتراضها عالية كما قالوا، كما أنّها بسائط خارجيّة غير مركّبة من مادّة وصورة، وإنّ ما به الاشتراك فيها عين ما به الامتياز كما هي تعابير المرحوم الخوئي نفسه، كما لم يثبت في محلّ ما أنّ كلّ من كان في عالم التّكوين فله جنس وفصل أو يدخل في المقولات العشر؛ لأنّ الجنس والفصل من أقسام الماهيّة، وعالم التّكوين أوسع من ذلك، بل لا وجود للماهيّة في عالم التّكوين بناءً على القول باعتباريّتها كما يقولون، والأدهى من ذلك كلّه: إنّ المرحوم الخوئي كان بصدد عرض متبنّات الآخرين في تفسير الوجوب وإبطال قول التضمّن على أساسها، وليس بصدد تبنّي الأوّل منها ليُناقش ويوجّه الّلوم إليه، فتفطّن.
#ينبغي أن يعذرني المتابع الجادّ عن إقحام مثل هذه البحوث التخصّصيّة في المقام؛ لكنّي لا أجد منها بُدّاً ـ بعد حذف الكثير ـ للبرهنة على أنّ دعوى أعلميّة الرّاحل الشّهيد محمّد الصّدر في علم أصول الفقه الإثني عشريّ مجرّد مزحة لا يحتاج اكتشافها إلّا لهنيئة التفات؛ لأنّ من يتابع دروسه المسموعة وبحوثه المنشورة لن يتردّد في وصفها بالابتعاد لا عن الأعلميّة فقط بل عمّا دونها بمراتب أيضاً، لكنّ حينما يُهجر العلم وتُترك قلاعه، تتغيّر الأمور وتتبدّل الأولويّات، فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر