#كان المرحوم الشّهيد محمّد الصّدر ينصّ بكلّ أريحيّة في مجلس درسه الفقهي أُخريات حياته على أنّه ضعيف الاطّلاع على فقه أهل السُنّة، وهذه شجاعة منه قد لا تجدها في الأوساط الحوزويّة المنتفخة إلّا نادراً.
#وهنا تبرز ملاحظة: فقد يكون عدم الاطّلاع على تفاصيل البحث الفقهي السُنّي طبيعيّاً ومعقولاً أيضاً، لكن أن يصل به عدم المعرفة بفقه أهل السُنّة إلى حدّ بحيث يصرّح في دروسه في أبحاث الخارج الفقهي والّتي عدّها أحد أهمّ كواشف أعلميّته: بأنّه لا يعلم إن كان العامّة كلّهم يحذفون حيّ على خير العمل أو بعضهم؛ ويدّعي أنّ الشّافعي ربّما يؤمن بجزئيّتها في الأذان استناداً إلى نقل خاطئ يتحمّل هو مسؤوليّته فهذا هو العجب العجاب!!
#وقبل أن أبدأ باستعراض الأسباب المفجعة الّتي دعت المرحوم الشّهيد إلى طرح مثل هذا الاحتمال يحسن بي أن أؤكّد على أنّ تفرّد الإماميّة الاثني عشريّة ـ وربّما بعض الفرق الشّيعيّة ـ بهذه الإضافة بخصوصها مسألة إجماعيّة مسلّمة فقهيّاً، ويُفترض بأيّ طالب محصّل أن يعرفها فكيف بمن يدّعي الأعلميّة على عموم مجايليه وأساتذته الأموات أيضاً، وهي مسألة مبثوثة في التّراث الرّوائي والفقهي بوفرة أيضاً، ولهذا قال السيّد المرتضى المتوفّى سنة: “436هـ” في كتابه الانتصار: «ومّما انفردت به الإمامية: أن تقول في الأذان والإقامة بعد قول: حيّ على الفلاح: “حي على خير العمل. والوجه في ذلك: إجماع الفرقة المحقة عليه. وقد روت العامة أنّ ذلك مّما كان يُقال في بعض أيام النّبي “ص”، وإنّما ادّعي أنّ ذلك نُسخ ورُفع، وعلى من ادعى النّسخ الدّلالة، وما يجدها». [ص63].
#وربّما تُلقن أو ينقدح في ذهنك خطأً فتقول: ربّما يكون مقصود الرّاحل الشّهيد الإشارة إلى ما ذكرته بعض كتب الزّيديّة المتأخّرة من أنّ القول بإثبات حيّ على خير العمل في الأذان هو أحد قولي الشّافعي، وبالتّالي: فالرّاحل الشّهيد كان ناظراً لها حينما ذكر أنّ الشّافعي ربما يتبنّى القول بجزئيّة هذه الفقرة من الأذان!!
#والجواب: كنت سأبتهج لو كان حجم تتبّع الرّاحل الشّهيد إلى هذا الحدّ والمستوى، وابتهج أيضاً إذا ما كان يمتلك كتب الزّيديّة ويُراجعها، ولكنّ الأمر ليس كذلك جزماً وقطعاً وحتماً، مضافاً إلى أنّ مثل هذه النّسبة للشّافعي لا تصحّ بالمطلق، ولا تحمل كتبهم أيّ شيء من هذا القبيل، وما جاء في البحر الزخّار والاعتصام بحبل الله خطأ كما نبّه لذلك الشّوكاني المتوفّى سنة: “1255هـ” في نيل الأوطار. [راجع في هذا الصّدد: نيل الأوطار: ج2، ص46، ط دار الحديث].
#وقد تسأل وتقول: إذا لم يكن الأمر كذلك فما هي الأسباب الّتي تدعو الرّاحل الشّهيد إلى ارتكاب مثل هذا الخطأ الواضح وهو يدرّس دروس الخارج الفقهيّة؟!
#والحقيقة: إنّ الّذي دعا الرّاحل الشّهيد لذلك هو خطأ نقله وقراءته لعبارة الأغا رضا الهمداني صاحب مصباح الفقيه المتوفّى سنة: “1322هـ” الشّارحة لعبارة المحقّق الحلّي المتوفّى سنة: “676هـ” في كتابه الشّهير شرائع الإسلام؛ وذلك لأنّ الأخير بعد أن نصّ في المسألة الخامسة من أحكام الأذان على أنّه: «يُكره للمؤذّن أن يلتفت يميناً وشمالاً»، أضاف الهمداني في شرحها عباراته المزجيّة المعروفة والّتي وردت في كلمات من سبقه من الفقهاء أيضاً فقال: «كما صرّح به غير واحد، بل عن التّذكرة [للعلّامة الحلّي] نسبته إلى علمائنا، خلافاً للمحكيّ عن الشّافعي، فيستحبّ أن يلتفت يميناً إذا قال: حيّ على الصّلاة، ويساراً إذا قال: حيّ على الفلاح». [مصباح الفقيه: ص229، حجري؛ ج11، ص365ـ366، ط المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التّراث].
#وبعد أن قرأ المرحوم الشّهيد هذه العبارة في مجلس درسه أقدم على استبدال العبارة المحكيّة عن الشّافعي: “ويساراً إذا قال حيّ على الفلاح” بعبارة: “ويساراً إذا قال: حيّ على خير العمل”، وبعد أن كرّرها مرّتين بشكل خاطئ نصّ على أنّ هذا النّص ألفته وأثار انتباهه؛ إذ معنى ذلك أنّ الشّافعي يرى جزئيّة حيّ على خير العمل في الأذان!! لكنّ قرّر بعدها أنّه ضعيف الاطّلاع على فقه السُنّة!!
#وإذا أردنا أن نوجّه الأسباب المحتملة الّتي تقف وراء قيام الرّاحل الشّهيد بتغيير عبارة مصباح الفقيه بهذا الشّكل الخاطئ نقول: يبدو أنّه “رحمه الله” كان قد عمد إلى نقل العبارة من مصباح الفقيه إلى مدوّناته الّتي يقرأ فيها في مجلس درسه وصار لديه سبق في التّدوين انسياقاً مع ما ركز في ذهنه خطأً، ولكنّ هذا الأمر ـ ولو بوقوعه أيضاً ـ لا يبرّر لمن هو في وزن مدّعياته ألّا يلتفت إلى مثل هذه المسألة البسيطة، خصوصاً وهي من أوليّات الفقه والمذهب، على أنّ حكاية قرب الفقه الشّافعي من الفقه الاثني عشريّ لا ينبغي صدورها ممّن هو دونه فكيف بمن هو بحجم مدّعياته!!
#أسأل الله تعالى أن يرحم الرّاحل الشّهيد برحمته الواسعة، وأن يُسكنه فسيح جنانه، وأن يمنّ على العلم برجالٍ لا تأخذهم في تشييد قواعده وأساساته لومة لائم، إنّه سميع مجيب، وهو دائماً من وراء القصد.
#ميثاق_العسر