لماذا لم يطلب الحسين “ع” الإصلاح في زمن معاوية؟!

#كان في عنق الحسين بن عليّ “ع” بيعة لمعاوية بن أبي سفيان تقتضي عدم الإقدام على أيّ تحرّك ينافي مؤدّاها، وهذا ما ثبّتته النّصوص وأكّدته سيرة الحسين “ع” العمليّة أيضاً والملتزمة بمؤدّى هذه البيعة، ولهذا نصّ الكشّي صاحب أحد الأصول الرّجاليّة الاثني عشريّة المعروفة بصيغة: «وروي أنّ‌ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة: “أمّا بعد، فإنّ‌ عمرو بن عثمان ذكر أنّ‌ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن عليّ، وذكر أنّه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك، فبلغني أنّه يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضا لما بعده، فاكتب إليّ‌ برأيك في هذا، والسّلام”. فكتب إليه معاوية: “أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تعرّض للحسين في شيء، واترك حسيناً ما تركك؛ فإنّا لا نريد أن تعرّض له في شيء ما وفّى ببيعتنا، ولم ينز على سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته، والسّلام»”. [رجال الكشي: ص54].
#وهذا الأمر ينسجم مع ما أورده الدينوريّ المتوفّى على أحد الأقوال سنة: “281هـ”؛ حيث أخبر عن قدوم نفر من أشراف أهل الكوفة إلى الحسين بن عليّ “ع” في المدينة لإخباره بمقتل حجر بن عديّ، وكانوا يختلفون إليه، فأقلق هذا الأمر خليفة المدينة مروان بن الحكم آنذاك، فكتب إلى معاوية تقريراً بذلك، فأجابه معاوية: «لا تعرض للحسين في شيء؛ فقد بايعنا، وليس بناقض بيعتنا ولا مخفر ذمتنا»، كما كتب معاوية إلى «الحسين: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك لست بها حريّاً؛ لأنّ من أعطى صفقة يمينه جدير بالوفاء، فاعلم رحمك الله إنّي متى أنكرك تستنكرني، ومتى تكدني أكدك، فلا يستفزّنك السّفهاء الّذين يحبّون الفتنة، والسّلام”، فكتب اليه الحسين “رض”: “ما أريد حربك، ولا الخلاف عليك”». [الأخبار الطّوال: ص226، ط السّعادة بمصر].
#وعلى أساس هذه البيعة والتزاماتها كان الحسين بن عليّ “ع” يتقاضى حقوقه كمواطن مميّز ويستلم جوائز عالية من البلاط الأموي آنذاك، بل يُشير بعض المؤرّخين إلى أنّ هذه المرتّبات والعطايا كانت إحدى شروط التّنازل الّتي وقّعها معاوية مع الحسن “ع” كذلك، على أنّ أصل الفوارق في العطاء مسألة طبيعيّة ومتداولة في أعراف ذلك الزّمان، ولعلّ أوّل من قنّنها هو الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب المقتول سنة: “23هـ”؛ حيث أدرج الحسن والحسين “ع” في سلّم مرتّبات المشاركين في بدر كما تذكر الكتب المختصّة.
#ولم تقتصر المواطنة الّتي كان يمتثلها الحسين بن عليّ “ع” على الحدّ الأدنى و “كفيان الشّر” فقط، بل كان يصلّي خلف أمراء معاوية في المدينة أيضاً ولا حراجة في البين، ومن الأمراء مروان بن الحكم الّذي ينصّ المرحوم الخوئي المتوفّى سنة: “1413هـ” في ترجمته قائلاً: «إنّ خبث الرّجل وعداءه لأهل البيت “ع” يقرب في الوضوح كفر إبليس». [معجم رجال الحديث: ج19، ص130ـ131]، وهذا الأمر طبيعيّ جدّاً ولا يمكن نفيه بالمُطلق؛ إذ إنّ هذا هو مقتضى الأصل الطّبيعي لمن يعيش في تلك الظّروف والمناخات ولا نستطيع أن نقدّم دليلاً واحداً على أنّ الحسين “ع” كان يُصلّي في بيته طيلة سنوات خلافة معاوية أو كان يعقد جماعة لوحده؛ لأنّ مثل هذا العمل يُعدّ خروجاً عن الملّة في ذلك الوقت، بل الدّليل قائم على خلافه.
#ولهذا جاءت في كتاب الأشعثيّات ـ والّذي صحّح المرجع الأعلى الاثنا عشريّ المعاصر السّيستاني روايات نسخته الواصلة على ما حُكي عنه ـ الرّواية بإسناده الصّحيح عنده عن الباقر “ع” القول: «كان الحسن والحسين “ع” يصلّيان خلف مروان بن الحكم، فقالوا لأحدهما: ما كان أبوك يصلي إذا رجع إلى البيت؟ فأقول: لا؛ والله ما كان يزيد على صلاة الأئمة»، وروى الشّافعي المتوفّى سنة: “204هـ” هذا المضمون أيضاً بألفاظ مقاربة بواسطة واحدة عن الصّادق “ع”، ورواه أيضاً بالواسطة نفسها ابن أبي شيبة المتوفّى سنة: “235هـ” عن الصّادق “ع” عن أبيه الباقر “ع”. [مستدرك الوسائل: ج6، ص456، نوادر الرّاوندي: ص30؛ مسند الشّافعي: ص35، تحقيق: ماهر ياسين الفحل؛ المصنّف لابن أبي شيبة: ج2، ص152، ط دار التّاج؛ وانظر تصحيح السّيستاني للأشعثيّات في كتاب تلميذه ومقرّر بحثه: أضواء على علمي الدّراية والرّجال: ص224].
#وبعد هذا الإيضاح والتّوثيق نسأل: إذا كان الهدف الحصريّ للحسين بن عليّ “ع” من خروجه هو طلب الإصلاح في أمّة جدّه وإنكار المنكر والأمر بالمعروف، وأنّ هذا الهدف لن يتحقّق إلّا بالشّهادة بصيغتها المعروفة في تفسير حركته، فلماذا لم يتنجّز عليه هذا التّكليف في أيّام معاوية وقد قضى ردحاً من الزّمن في ظلّها ومن دون وصاية إمام إلهيّ اثني عشريّ عليه، فهل كانت أيّام معاوية خالية من المنكر والفساد الإداري والمالي، أم كان مأموراً بالتّقيّة بعرضها العريض الّذي يقتضي استلام المرتّبات والجوائز والصّلاة خلف أمراء معاوية؟! أو لا هذا ولا ذاك، وإنّما كانت شروط ما يُسمّى بالصّلح تُلزمه بذلك، لكنّ المفروض أنّ هذه الشّروط المدّعاة قد انتهت برحيل شقيقه الحسن “ع” وانتهى مفعولها الأخلاقي والشّرعي أيضاً، وبالتّالي: فهناك فترة عشر سنوات كان بإمكانه تسجيل موقفه في طلب الإصلاح والأمر بالمعروف وإنكار المنكر المتسانخ مع حجم الفساد المعروف في الواقع الاثني عشريّ عن معاوية، لكنّه لم يفعل!!
#وإذا قلت: بأنّ العناية الإلهيّة كانت قد وقّتت لحركة الحسين بن علي “ع” الإصلاحيّة توقيتاً محدّداً يبدأ من حين لحظة وفاة معاوية لا قبلها فنقول: هل هذا يعني أنّ إقرار الحسين “ع” لخلافة معاوية وبيعته لها والائتمار بأوامرها واستلام جوائزها ومرتّباتها يصلح لتوفير أرضيّة صالحة لاستنباط أحكام شرعيّة تكليفيّة ووضعيّة منه وبناء مواقف دينيّة على أساسها، أم أنّ سيرته ونصوصه ومواقفه في فترة معاوية فاقدة لأيّ اعتبار يصلح للاستنباط؟!
#نعم؛ أرسل الكشّي وغيره رسالة شديدة الّلهجة كان قد بعثها الحسين بن عليّ “ع” إلى معاوية بن أبي سفيان بعد مقتل حجر بن عديّ، وكانت تحمل شجباً حادّاً لمنح ولاية العهد إلى يزيد وأخذ البيعة من النّاس لها، لكنّها لا تعدو المخاطبات الكلاميّة الّتي لم يتنجّز على أثرها أيّ أثر عمليّ حتّى نهاية حكم معاوية، وقد عمد الأخير لامتصاص غضبها بطريقته الماليّة الخاصّة، والّتي تمنح المال لمن يُمسك يده ولمن لا يُعيق قدمه؛ فاستمرّ حكمه بعد ذلك سنوات عدّة حتّى مات.
#فتحصّل ممّا تقّدم: إنّ ما يُشاع من أنّ خروج الحسين بن عليّ “ع” إلى العراق كان بقصد الشّهادة منذ البداية بغية الإصلاح والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا معنى محصّل له؛ وذلك لأنّ هذه الأهداف إنّما يكون لها وجه معقول إذا قلنا بمرورها من خلال تسنّمه “ع” الخلافة وتمرير برامجه الحكوميّة وخططه المعدّة سلفاً لذلك، ومن دون هذا الفهم السّليم والصّحيح والمتوائم مع المعطيات التّاريخيّة والرّوائيّة المعتبرة يشكل جدّاً تفسير سكوت الحسين بن عليّ “ع” واندماجه وانصهاره الكامل مع خلافة معاوية وولاتها وسياستها إلّا بضرب من التّمحّلات المذهبيّة الفاسدة؛ إذ كان بإمكانه إنجاز مثل هذا الأهداف وبآليّة الشّهادة نفسها بعد رحيل شقيقه الحسن “ع” ـ والأرضيّة في الكوفة متوفّرة جدّاً لذلك ـ وسوف يُقتل ويتحقّق غرضه الّذي تدّعي نظريّة الشّهادة سماويّته، وبذلك يستطيع أن يضع علامة استفهام كبيرة جدّاً على سياسة معاوية ونهجه الارستقراطي من دون حاجة لاستلام جوائزه ولا للصّلاة خلف ولاته بل ولا لبيعته من الأساس، لكنّ جميع هذا لم يحصل، بل انتظر حتّى نهاية خلافة معاوية فامتنع عن بيعة يزيد على الخلافة وتحرّك في سبيل تحصيلها لنفسه، وبعد أن توفّرت لما أراده الظّروف والمقدّمات الّلازمة ـ وفقاً لقناعته ـ بادر بالسّفر إلى الكوفة، ولولا توفّرها لما تحرّك خطوة في هذا الاتّجاه، فتأمّل.
#اعتقد أنّ دعوى أنّ الحسين بن عليّ “ع” كان قد خرج إلى العراق لأجل الشّهادة الّتي يعلم بها وليس لتسنّم الخلافة الّتي منّاه أهل الكوفة بها تحتاج إلى إقفال العقل في صندوق وإلقائه في أعماق البحار وإسكان العاطفة والدّموع والمقولات المذهبيّة ونصوصها مكانه؛ لأنّ هذه الدّعوى لا تستطيع أن تُجيب على عشرات الأسئلة الواقعيّة والمُقلقة الّتي تكذّبها وتفضح أسباب ولادتها أيضاً، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر