لماذا لم يرجع الحسين “ع” بعد مقتل مسلم؟!

#قد يسأل سائل ويقول: إذا كان الحسين بن عليّ “ع” قد خرج بسبب رسائل أهل الكوفة وتمنيتهم له بالخلافة والزّعامة، فما باله لم يعد إلى مكّة أو المدينة حين وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل إليه في منطقة زرود، ولماذا استمرّ في الطّريق، فهذا يكشف عن أنّ له هدفاً أكبر وأعمق، وهو الشّهادة في سبيل الله الّتي كان يعلم بها ويتحرّك نحوها منذ أوّل خطوة له بل ما قبلها أيضاً.
#وفي الحقيقة أنّ مثل هذا الكلام ينطلق من تصوّرات مذهبيّة تنبثق من الصّورة النّمطيّة الغارقة في المثاليّة الرّاكزة في الأذهان الاثني عشريّة عن الحسين بن عليّ “ع”، وهي أبعد ما يكون عمّا هو مسطور في مصادر حركته ومقتله “ع”؛ وذلك لأنّ المصادر المعتبرة في هذه الحادثة نصّت على أنّ الحسين “ع”حينما علم بمقتل مسلم بن عقيل في زرود ونصحه المخبرون من بني أسد بضرورة العودة إلى دياره، استشار بني عقيل وقال لهم: «ما ترون، فقد قُتل مسلم؟ فقالوا: والله لا نرجع حتّى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق»، «لا والله لا نبرح حتّى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا»، «فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب»، وقال له أصحابه أيضاً: «إنّك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان النّاس إليك أسرع، فسكت». [تاريخ الطّبري: ج5، ص397ـ398؛ الإرشاد، المفيد: ج2، ص75].
#ومن الطّبيعي أنّ أيّ شخص آخر يقف مكانه في ظلّ تلك الظّروف والمناخات الحربيّة القبليّة القائمة على أساس الثّأر لا يمكن له أن يخذل أبناء عمّه وأخوة سفيره الّذي أرسله في هذه المهمّة، بل سيسبّب هذا تفكّكاً وإرباكاً في جيشه الّذي تفرّق أكثره بعد سماع هذا الخبر؛ كما سيتركه بنو عقيل فوراً؛ لأنّهم يعتبرون هذا الانسحاب منه خذلاناً لمن ورّط في هذه المهمّة، ويواصلون مسيرهم نحو الكوفة للأخذ بثأرهم، ولهذا لم يكن للحسين “ع” من خيار غير مواصلة المسيرة، سيّما بعد أن نقّح له أصحابه موضوع الفرق الكارزمي بين الشّخصيّتين، لكن حينما ظهر جيش الحرّ الرّياحي أمامه تغيّرت المعادلة تماماً؛ إذ عرف أنّ الذّهاب للكوفة والاستمرار في هذا الطّريق يعني القتل الحتمي الّذي لا مفرّ منه، ولهذا توسّعت خيارات التّفاوض، وكان أبرزها العودة إلى المدينة أو إلى اليمن بل وحتّى الشّام، إلّا أنّ المهمّة العسكريّة الّتي كانت لدى الحرّ تقتضي مرافقته حتّى الوقوع على يد عبيد الله بن زياد.
#وممّا تقدّم من بيان تعرف ما يرد على ما ذكره المرحوم الشّهيد محمّد الصّدر في هذا الخصوص؛ حيث عدّ مثل هذا الاعتراض شاهداً على أنّ الحسين “ع” كان طالباً للشّهادة؛ مدّعياً أنّه لو كان قد قصد للكوفة بسبب رسائلهم وبيعتهم له على الخلافة لكان ينبغي به العودة إلى المدينة فور وصول خبر مقتل مسلم إليه في زرود، ولم ينتظر حتّى جعجعة جيش الحرّ به، وذلك لأنّ الفترة الزّمنيّة ما بينهما «لعلها أسبوع أو أكثر أو أقل، كان يمكن للإمام الحسين “ع” أن يعود بركبه إلى المدينة، وعندئذ لم [لن] يلتقي بالحرّ ولا يجعجع به، وإنمّا كان سلام الله عليه طالباً للشّهادة على كلّ حال». [أضواء على ثورة الحسين: ص99ـ101].
#ووجه ذلك: لو كان المرحوم الشّهيد مطلّعاً على شيء بسيط ممّا ذكرته الكتب المعتبرة في هذا الصّدد لما كتب هذا الكلام، لكنّ المشكلة العميقة الّتي تضرب قلب بحوث واهتمامات ودعاوى المرحوم الشّهيد محمّد الصّدر هي قلّة التتبّع والاستقصاء والفحص في عموم تراثه، ولهذا يلجأ عادة ـ لسدّ هذه الثّغرة الكبيرة ـ إلى سلوك طريق تكثير الوجوه والاحتمالات والأطروحات والمستويات بأمل الإصابة، فيُضيّع القارئ معه ويتركه في تيه لا يعرف رأسه من رجليه، ويحسب الجاهل البسيط ذلك فتحاً مبيناً!!
#وصفوة القول: إنّ الفهم السّليم لعموم تحرّكات الحسين بن عليّ “ع” ينبغي أن يتواءم مع الممارسات البشريّة الطّبيعيّة الّتي أقدم عليها والمرويّة في الكتب المعتبرة، لا أن نحمّل حركاته وسكناته ومواقفه البشريّة الطّبيعيّة وزر دلالات نصوص بعديّة لاحقة ولدت في سياق قميص الإمامة الإلهيّة وتفرّعاتها؛ لأنّنا بذلك سنكون شركاء في ذبح الحسين الحقيقي مرّات ومرّات من الوريد إلى الوريد، وجعله في المتحف المذهبي للبكاء والنّحيب والعويل، وهذا هو أحد أسباب تقهقرنا وخيبتنا، فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الحسين_المذهبي