فقهاء الشيعة وهدايا السلاطين!!

3 يناير 2017
1815
ميثاق العسر

#ثمّة مسائل جديدة طرأت على الفقه الشيعي إبّان ولادة الدولة الصفويّة الشيعيّة مطلع القرن السّادس عشر من الميلاد؛ إذ تولّدت مسائل فقهيّة لم تكن محلّ ابتلاء المجتمع الشيعي جرّاء عدم وجود حكومة شيعيّة، خلافاً للفقه السنّي الذي لم تكن لديه مشكلة إزاءها باعتباره يعتقد بشرعيّة الخلافة وشرعيّة جميع أفعالها، مسائل من قبيل: صلاة الجمعة والعيدين […]


#ثمّة مسائل جديدة طرأت على الفقه الشيعي إبّان ولادة الدولة الصفويّة الشيعيّة مطلع القرن السّادس عشر من الميلاد؛ إذ تولّدت مسائل فقهيّة لم تكن محلّ ابتلاء المجتمع الشيعي جرّاء عدم وجود حكومة شيعيّة، خلافاً للفقه السنّي الذي لم تكن لديه مشكلة إزاءها باعتباره يعتقد بشرعيّة الخلافة وشرعيّة جميع أفعالها، مسائل من قبيل: صلاة الجمعة والعيدين وإجراء الحدود الشرعيّة ونصب القاضي والجهاد وما شابهها.
#ومن المسائل التي سبّبت جدلاً ونقاشاً طويلاً بين فقهاء الشيعة فيها هي مسألة هدايا السّلطان التي تؤخذ عادة من الضّرائب المفروضة على النّاس، هذه الهدايا الّتي صارت هي القوت الأصلي لعموم رجال الدّين حتّى حلّ محلّها أخيراً الخمس رغم إن الجّوهر قد يكون واحداً، وقد سبّب هذا التحوّل المهمّ في ارتزاق رجال الدّين في بروز مشاكل فقهيّة واجتماعيّة في نفس الوقت لعلّ شاهدها كثرة البحوث والرسائل الفقهيّة حول الخراج والضرائب التي حملتها تلك المرحلة، وكيف ما كان؛ فقد كان رائد التنظير الفقهي لمشروعيّة هذه الهدايا هو الفقيه الّلبناني نزيل إيران: علي بن الحسين الكركي، المعروف بين الفقهاء بالمحقّق الثاني (1464ـ1533م)؛ حيث كانت تصله أموال طائلة من البلاط الصفوي، فيتقبّلها “رحمه الله” دون حراجة، أمّا زميله وخصيمه الآخر وهو الشيخ إبراهيم القطيفي فقد كان يتمنّع وبقوّة عن أخذها، ولكلّ منهما وجهة نظره الفقهيّة في تبرير ذلك.
#وفي يوم من الأيّام: صدف أن اجتمع الكركي والقطيفي في أحدى المراقد المقدّسة في العراق، وكان الشاه طهماسب قد أرسل إلى القطيفي جوائز اعتذر الأخير عن قبولها متحجّجاً بعدم الحاجة إليها، فردعه الكركي وقرّعه، وقال له: إنّك أخطأت في ردّها، وارتكبت إمّا حراماً أو مكروهاً؛ فإنّ الإمام الحسن “ع” قد قبل هدايا من معاوية، وهذا السلطان لم يكن أنقص درجة من معاوية، ولا أنّك أعلى رتبة من الإمام الحسن ع!! [رياض العلماء: ج1، ص15].
#لكن القطيفي لم يقنعه مثل هذا البيان، وبقي حتّى آخر لحظة في حياته ممتنعاً عن قبولها، وبقيت تنظيرات الكركي هي السائدة والرائجة في الفقه الشيعي في موضوع الخراج عند عموم الفقهاء، وبقى الفقهاء الذين تلوه في البلاط الصفوي يتقبّلون الهدايا ويعدّونها من المال الحلال، وأقاموا الأدلّة تلو الأدلّة على طريقته في ردّ مخالفيهم حتّى ظهر المقدّس أحمد بن محمد الأردبيلي المتوفّى سنة: “1585م” [والمعاصر للشيخ البهائي]، والّذي كان يمتلك مكانة وقداسة كبيرة بين علماء الشيعة حينها وحتّى في داخل البلاط الصفوي؛ حيث حرّم ضرائب البلاط، وانتقد بشدّة الأداء السيء لرجال الدّين في ذّهابهم إلى الأخير في قبول هدايا البلاط دون وجع قلب، بل وحتّى إقدامهم على ذلك خارج الإطار الفقهي الذي رسمه الكركي، وما أشبه اليوم بالأمس.
#أقول: ما دعانا إلى ذكر هذا الموضوع أمور عدّة أهمّها: لا ينبغي للفقيه أن يقرأ الآراء والمواضيع الفقهيّة للمتقدّمين والمتأخّرين ـ بل وحتّى الأسئلة الروائيّة ـ دون قراءة السياقات التاريخيّة التي ولّدتها، والمبرّرات السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة…التي سبّبتها، ولعلّ مناكفات الكركي والقطيفي والبحوث والرسائل الفقهيّة التي دارت بينهم وبين العلماء الّلاحقين حول هذا الموضوع أفضل نموذج يستحقّ الدراسة والتقييم، في سبيل إعادة النظر فيما يُسمّى ضرورات مذهبيّة ودينيّة على كلا المستويين الكلامي والفقهي، والله من وراء القصد.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...