#لا يخفى عليك: أنّ مصنّفي الكتب الأربعة ـ وهم من المؤسّسين الكبار للمذهب الاثني عشريّ ـ يؤمنون بصحّة أسانيد رواياتهم بمعنى سلامة انتساب مضامينها إلى أصحابها، وإذا ما كان لبعضهم ملاحظة عليها أو على مضمونها سجّل تحفّظه أو تعليقه أو تأويله في المكان نفسه، وعلى هذا الأساس نعبّر ـ حينما نُورد رواية من كتبهم ـ بالصّحيح عنده، أي الصّحيح عند الكليني أو الصّدوق أو الطّوسي، ولسنا معنيّين بحكمها الحديثيّ المخالف عند مقلِّدة مقلِّدتهم من المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين والمعاصرين.
#وإذا أردنا أن نوثّق هذا المدّعى ونقرّبه إلى الأذهان ببيان فلا يسعنا إلّا الاستعانة بكلمات الشّهيد الثّاني المستشهد سنة: “966هـ” حيث قال: «كان قد استقرّ أمر المتقدّمين على أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف سمّوها الاُصول، وكان عليها اعتمادهم، ثمّ تداعت الحال إلى ذهاب معظم تلك الاُصول، ولخّصها جماعة في كتب خاصّة تقريباً على المتناول، وأحسن ما جُمع منها: كتاب الكافي لمحمّد بن يعقوب الكليني، والتّهذيب للشيخ أبي جعفر الطّوسي، ولا يُستغنى بأحدهما عن الآخر؛ لأنّ الأوّل أجمع لفنون الأحاديث، والثّاني أجمع للأحاديث المختصّة بالأحكام الشرعيّة. وأمّا الاستبصار: فإنّه أخصّ من التّهذيب غالباً فيمكن الغنى عنه به. وكتاب من لا يحضره الفقيه حسنٌ أيضاً، إلاّ أنّه لا يخرج عن الكتابين غالباً». [الرّعاية في علم الدّراية: ص72].
#ومن باب المثال: فإنّ كتاب الكافي يُعدّ بمثابة الرّسالة العمليّة الفتوائيّة للكليني المتوفّى سنة: “329هـ”، ولم يُورد فيه إلّا المضامين الّتي يطمئن بصحّتها وسلامتها كما هو ظاهر بل نصّ مقدّمته، وحتّى إذا لاح بين بعضها تعارض فلا يعني ذلك صحّة أحدها وكذب انتساب الآخر وفقاً لبيانه، بل يعني صدورهما معاً، وبأيّهما عمل المكلّف من باب التّسليم وسعه؛ لأنّ الصّادقين “ع” كانوا قاصدين لذلك على تفصيل ليس هنا محلّ ذكره، والشّواهد الرّوائيّة تؤكّد مختاره.
#ولهذا نصّ المجلسيّ الأب المتوفّى سنة: “1070هـ” على ما ترجمته: «يمكن أن يقال: إنّ مراسيل الكليني والصّدوق بل جميع أحاديث الكافي والفقيه صحيحة؛ وذلك لأنّ شهادة هذين الشّيخين الجليلين لا تقلّ حتماً عن شهادة الرّجاليّين بل هي أفضل منها؛ وذلك لأنّ وصفهما للأخبار بالصحّة أي تيقّنهما بوجه من الوجوه بصدورها من الأئمّة المعصومين “ص”، أمّا وصف المتأخّرين لها بالصحّة فمعناه توثيق رواتها فقط، واحتمال كذب أو سهو كلّ واحد منهما وارد». [لوامع صاحبقرانى، بالفارسيّة: ج1، ص105].
#وهذا يؤكّد: أنّ تصحيحهم لتلك الأخبار واعتمادهم عليها لم ينشأ من حدس واجتهاد لكي يُقال بأنّ حدسهم واجتهادهم ليس حجّة على غيرهم، بل هو ناتج في الأعمّ الأغلب ـ وهذا قيد مهمّ لإخراج بعض الشّواهد البسيطة عند الصّدوق والطّوسي ـ عن حسّ ومعطيات، كما أنّ تعبير الكليني في مقدّمة الكافي بإيراد الآثار الصّحيحة عن الصّادقين “ع” في كتابه لا يعني أنّه قد خلط فيه بينها وبين غيرها وعلى المكلَّف أن يسلك المناهج الحديثيّة في اكتشافها والتّرجيح فيما بينها كما يدّعي بعضهم، وإنّما يعني: أنّه أودع في كتابه ما صحّ لديه من آثار عن الصّادقين “ع”، إمّا بالمباشرة ـ كما في الرّوايات المتّصلة بهم ـ أو بالواسطة أيضاً ـ كما في بعض ما رواه عن غيرهم ـ، وهذا هو معنى استجابته لتوفير كتاب «كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين، ما يكتفي به المتعلّم، و يرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدّين والعمل به بالآثار الصّحيحة عن الصّادقين “ع”…». [مقدّمة الكافي]، نعم؛ ينبغي أن يُحصر ذلك في غير ما روي عن الأئمّة المتأخّرين جدّاً ومكاتباتهم.
#ولنعم ما قال المحدّث البحراني المتوفّى سنة: “1183هـ” وهو يتحدّث عن هذه الحقيقة، منتقداً من يرى غيرها، مقرّراً: «ولم يتفطّنوا نوّر الله تعالى ضرائحهم إلى: أنّ هذه الأحاديث الّتي بأيدينا إنّما وصلت لنا بعد أن سهرت العيون في تصحيحها، وذابت الأبدان في تنقيحها، وقطعوا في تحصيلها من معادنها البلدان، وهجروا في تنقيتها الأولاد والنّسوان، كما لا يخفى على من تتبع السّير والأخبار، وطالع الكتب المدوّنة في تلك الآثار؛ فإنّ المستفاد منها على وجه لا يزاحمه الرّيب ولا يداخله القدح والعيب: أنّه كان دأب قدماء أصحابنا المعاصرين لهم “ع” إلى وقت المحمدين الثلاثة [الكليني والصّدوق والطّوسي] ـ في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ـ ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة “ع”، والمسارعة إلى إثبات ما يسمعونه، خوفاً من تطرّق السّهو والنّسيان، وعرض ذلك عليهم. وقد صنّفوا تلك الأصول الأربعمائة المنقولة كلّها من أجوبتهم “ع”، ولهذا ما كانوا يستحلّون رواية ما لم يجزموا بصحته. وقد روي أنّه عرض على الصادق “ع” كتاب عبيد اللّه بن علي الحلبي، فاستحسنه وصحّحه، وعلى العسكري “ع” كتاب يونس بن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان فأثنى عليهما. وكانوا “ع” يوقفون شيعتهم على أحوال أولئك الكذّابين، ويأمرونهم بمجانبتهم، وعرض ما يرد من جهتهم على الكتاب العزيز والسنّة النبوية، وترك ما خالفهما». [الدّرر النّجفيّة: ج2، ص315، ط دار المصطفى؛ الحدائق النّاضرة: ج1، ص9ـ 10، ط مؤسّسة النّشر الإسلامي].
#وما تقدّم من بيان في إيمان مصنّفي هذه الكتب بصحّة انتساب مضامينها إلى من نُسبت إليه، لا يؤدّي إلى ضرورة الالتزام بمضمونها دون تبعيض وانتقاء لمن لا يعتقد بحجيّة أقوال من نُسبت إليه؛ إذ قد بيّنا في دراسات سابقة: أنّ الإمامة الإلهيّة والعرض العريض المترتّب عليها لا يُمكن إثباته من خلال روايات الشّخص ومرويّاته، أمّا ثبوت هذه الرّوايات عنهم، أو الإيمان بحقّانيّة مرويّاتهم عن الآخرين في غير إمامتهم، أو وثاقة رجال أسانيدها الطّريق الموصل إليهم، فهذا حديث آخر ينبغي أن يقدّر بقدره.
#وصفوة القول: علينا أن نعترف أنّ جملة وافرة من النّصوص الواردة في الكتب الأربعة ـ سيّما الفقهيّة منها ـ قد صدرت من الأئمّة المؤسّسين، ولا معنى لقبول ما ينسجم مع الإطار الاثني عشريّة بصيغته المتداولة وطرح الباقي بدعوى امتناع صدوره أو لعدم انسجامه مع هذا الإطار؛ وذلك لأنّ مؤسّسي هذا الإطار أنفسهم لم يروا أيّ حراجة في قبول هذه النّصوص وإدراجها في مصنّفاتهم والإفتاء على أساسها أيضاً، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر