يُعدّ وكيع بن الجرّاح الكوفيّ المتوفّى سنة: “197هـ” من أبرز أعلام تلك المرحلة ممّن له إحاطة واسعة بعلوم الحديث والرّجال، وتلقّى العلم من أمثال أبي حنيفة وسفيان الثّوري وشعبة بن الحجّاج وأضرابهم، وحدّث عنه رهط كثير كأحمد بن حنبل الّذي قال في حقّه: بأنّه لم ير أحداً أوعى للعلم وأحفظ منه، ولهذا نقل عنه الكبار في صحاحهم ومصنّفاتهم رغم اتّهامه بالرّفض لكونه يقدّم عليّاً على عثمان.
وذات يوم وفد وكيع إلى مكّة حاجّاً فحّدث بها بحديث سمعه من بعض شيوخه يقرّر بأنّ الرّسول قد تأخّر أصحابه في دفنه حتّى ربا بطنه وأنتنّت خنصراه، فجنّ جنون قريش هناك ورفع أمره إلى هارون الرّشيد الّذي كان في وقتها هناك كما هي إحدى الرّوايات لهذه الحادثة، فاستفتى في مصيره بعض مفتي زمانه، فأفتى عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد ـ والّذي كان ممّن حدّث عن وكيع ـ بضرورة قتله؛ وأخبرهم بأنّه لم يرو هذا الحديث إلّا وفي قلبه غشّ للرّسول، لكنّ سفيان بن عيينة ورغم التّباعد الحاصل بينه وبين وكيع لم يقبل بذلك، وأبلغ الرّشيد بعدم انبغاء قتله؛ لأنّه سمع حديثاً ورواه فلا ذنب له، وكانت المدينة شديدة الحرّ وتوفّي الرّسول يوم الاثنين وتُرك حتّى الأربعاء لانشغال القوم في صلاح الأمّة واختلفت قريش مع الأنصار، ومن الطّبيعي أن يتغيّر جثمانه… ورويت تفاصيل القصّة بطريقة أخرى.
أقول: لا شكّ في أنّ هذا الّلون من القمع لنقل الحقائق المرتبطة ببشريّة الرّسول أدّى إلى ضياع حقائق كثيرة، وأضحى المحدّثون مضطرّين إلى عدم التّحديث بما عنونوه بالمُنكرات والّتي هي ليست بمُنكرات أصلاً، بل وتجدهم يبادرون إلى التّشكيك بوثاقة الرّاوي وإلصاق التّهم به لإسقاط روايته إثر ذلك، ولهذا حنق بعض المتأخّرين على وكيع بسبب الممارسة أعلاه؛ فهذا الذّهبي يرى أنّها زلّة عالم، وهاجم وكيعاً بشدّة على روايته لها، واصفاً إيّاه بقلّة العقل والورع حينها، مذّكراً إيّاه بحديث عليّ بن أبي طالب الدّاعي لإخفاء الحقائق الدّينيّة الموجبة لتكذيب الله والرّسول عن النّاس!! مع أنّ الأصل البشريّ الحاكم منسجم تمام الانسجام مع ما حدّث به وكيع، ومن يُريد الخروج عن مثل هذا الأصل فلا يمكنه الرّكون إلى أقوال الشّخص نفسه في حياته، فتدبّر كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.