تعدّد المرجعيّات ووهم التّكليف الشّرعي!!

14 أغسطس 2017
1225

#في الخامس والعشرين من حزيران عام: “1946م” سافر المرجع الشّيعي الأعلى في وقته المرحوم أبو الحسن الأصفهاني مع خمسة عشر من أفراد عائلته في رحلة وصفت بالعلاجيّة إلى مدينة بعلبك الّلبنانيّة عن طريق دمشق في حافلة تابعة لشركة نرن للنّقليّات المحدودة، وفي أيّام تواجده هناك قدّم له أحد أصدقاء البحّاثة المرحوم علي الخاقاني [صاحب كتاب شعراء الغري] استفتاءً حول إمكانيّة الزواج من مسيحيّة زواجاً دائماً، فأجاز له الأصفهاني ذلك، فتزوّج الرّجل وخلّف أولاداً ومرّت الحادثة دون التباس… #وذات يوم وبعد رحيل الأصفهاني إلى ربّه صدف أن التقى المرحوم الخاقاني بهذا الصّديق فوجده منفعلاً غاضباً مستاءً، فسأله عن السّبب فأخبره: إنّ أحد وكلاء المراجع قد شهّر بزوجته وأولاده وسعى إلى تقليص ظلّه في المجتمع!! فسأله الخاقاني عن سبب ذلك فأجابه هذا الصّديق بما نصّه: «كنت قد عوّدته على بعض العادات والمساعدات ونسيت هذا العام أن أقوم بما كنت قد عوّدته عليه؛ فإذا به يواجهني بلجهةٍ حادّةٍ ويقول: أ لم يرضك منّا أن سكتنا عن فعلتك الشّنعاء وسلوكك المضطرب حتّى صرت تستخفّ بنا؟!» فسأله هذا المسكين عن حقيقة هذه الفعلة الشّنعاء الّتي أرتكبها فأجابه الوكيل: «زواجك بنصرانيّة بالعقد الدّائم، وهذا الأمر حرام عندنا، وما لم تصحّح زواجك بها فستحرم عليك زوجتك وأولادك!!»، فأخبره: إنّه قد تزوّجها في بيروت حينما كان أبو الحسن الأصفهاني يقيم للاستشفاء في لبنان، وقد استفتاه في ذلك فأجاز، فبادره الوكيل قائلاً: «إنّا معاشر الأصوليّين لا نقرّ تقليد الموتى»، فقال له صاحب الفعلة الشّنعاء حسب تعبير الوكيل: إنّ الأصفهاني أجازني في حياته والحكم ماضٍ في وقته، نعم من أراد أن يتزوّج من قابل فعليه أن يأخذ الفتوى من الحيّ… لكنّ هذا الكلام لم يُقنع الحاضرين في تلك الجّلسة، «فطال الكلام وكثر التّشاجر، ولكن الأمر هيّن لو لم يكن الرّعيل الجّاهل يسمع من الرّجل ولا يقبل جدال الأفندي، فلم يشعر إلّا والنّفوس احتدمت والعيون جحظت، وخشي أن يتلقّى من بعضهم ما لا يتناسب مع كرامته»، فخرج مزعوجاً وصادف المرحوم الخاقاني وقصّ عليه القصّة.
#وفي الحال: قام الخاقاني بتلطيف مزاجه وتهدئة ثورته، وتطمينه بأنّه سيجلب له مجموعة من الفتاوى من مختلف مراجع النّجف لتصحيح عمله، وحفظ زوجته وإبقاء إطفاله؛ فاتّصل بستّة من الفقهاء والمراجع حينها، وقدّم لكلّ واحد منهم الاستفتاء ذي النّص التّالي:
«ما يقول مولانا حجّة الإسلام والمسلمين آية الله في العالمين في رجل تزوّج بكتابيّة بالعقد الدّائم بعد أخذ رأي مقلّده في ذلك وموافقته على ذلك، فهل زواجه صحيح وأمرأته شرعيّة وأولاده من غير زنا أم لا؟ أفتونا مأجورين».
#وقد جاء الجّواب كما يقول الخاقاني بالنّحو التّالي:
1ـ أقرّ بعضهم «صحّة ما وقع، نافياً وجود أيّ إشكال وشبهة في ذلك، معزّزاً فتواه بقوله، وهل يمكن أن يُفسخ عقد بين أثنين بدون مسوّغ، بل بالعكس إنّ السّبب في إمضائه يعود إلى تدعيم أسرة من الانهيار، وتقويم أمر الله ورسوله به؛ ليتّسع الإسلام وترتفع كلمته بأن يدخل فيه من أبناء الأديان الأخرى.
2ـ «وبعض قال: إنّ ما وقع لا مانع منه، والأحوط أن يُعاد الزّواج بالعقد المنقطع، ولا مانع من تطويل الزّمن ولو إلى تسعين سنة مثلاً».
3ـ «وبعضهم سكت ولم يجب مع العلم بأنّ له حريّة الرأي في القول، فاضطررت أن اتّصل به ـ والكلام لا زال للمرحوم الخاقاني ـ وأطلب منه إبداء رأيه أمّا سلباً أو إيجاباً، وبعد إلحاح قال: أنا لا أحرّم ولا أحلّل[!!]».
#وفي الأثناء علّق الخاقاني بمرأى ومسمع من هذا المرجع قائلاً له: إنّي قد استفدت من قولك يا مولاي أمراً كان يشغل بالي من قبل وهو المثل المعروف: «أكوس عريض الّلحية»، فهل له مصداق أم لا، وبعد أن سمعت جوابكم هذا اتّضح لي وجود مصداق له، فما كان من هذا المرجع إلّا أن امتعض من الخاقاني ومال بوجهه عنه، ونقم عليه فريق من الحضور أيضاً، واستأنس آخرون لجرأته، فخرج الخاقاني مردّداً: «لو إنّ زعيماً واحداً في البلد لما حدث ما يزعج وينزعج منه، ولسار النّاس على هدى واحد ورأي واحد حتّى لو كان غلطاً؛ فالتّسالم عليه يُخرجه إلى عالم الصّواب» [شعراء الغري: ج12، ص462].
#أجل؛ مشكلتنا هذه الأيّام هي تعدّد الزّعامات انسياقاً مع وهم التّكليف الشّرعي وفقدان الآليّات المشروعة في صناعة الزّعيم والقرار، وهي لعنة ستستمرّ طالما بقي وعي الأمّة يراوح مكانه دون تحرّر وعقلانيّة، والله الموفّق لسبيل الصّواب.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...