#روى البخاري المتوفّى سنة: “256هـ”، ومسلم المتوفّى سنة: “261هـ”، وأبو داود المتوفّى سنة: “275هـ”، والنّسائي المتوفّى سنة: “303هـ”، وغيرهم أيضاً ممّن يطول ذكرهم، بأسانيدهم الصّحيحة عندهم، عن عليّ بن أبي طالب “ع” قوله: «أنّ فاطمة “ع” اشتكت ما تلقى من الرّحى ممّا تطحن، فبلغها أنّ رسول الله “ص” أُتي بسبي، فأتته تسأله خادماً، فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النّبي “ص”، فذكرت ذلك عائشة له، فأتانا، وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما. حتّى وجدت برد قدميه على صدري [وفي رواية على بطني]، فقال: ألا أدلّكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما: فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين؛ فإنّ ذلك خير لكما مما سألتماه». [صحيح البخاري: ج7، ص65؛ ج8، ص70؛ صحيح مسلم: ج7، ص87ـ 89، ط دار التأصيل؛ سنن أبي داود: ج7، ص399ـ400، تحقيق: الأرنؤوط؛ السّنن الكبرى: ج8، ص266، تحقيق: الأرنؤوط].
#كما روى أحمد المتوفّى سنة: “241هـ” بإسناده الصّحيح عنده وعندهم، عن عليّ “ع” قوله: «أنّ رسول الله “ص” لما زوّجه فاطمة بعث معه بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين، فقال عليّ لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت حتّى لقد اشتكيت صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله قد طحنت حتّى مجلت يداي، فأتت النّبي “ص” فقال: ما جاء بك أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك، واستحيت أن تسأله، ورجعت، فقال: مافعلت؟ قالت: استحييت أن أساله، فأتيناه جميعاً، فقال: علي: يا رسول الله، والله لقد سنوت حتّى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبي وسعة، فأخدمنا، فقال رسول الله “ص”: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصّفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكنّي أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم…إلخ». [مسند أحمد: ج1، ص530ـ531، تحقيق: أحمد شاكر؛ ج2، ص202ـ203، تحقيق: الأرنؤوط].
#والملاحظ: أنّ البخاري أورد الحادثة أعلاه في مواطن من صحيحه، أوّلها في: «باب الدّليل على أنّ الخمس لنوائب رسول الله “ص” والمساكين، وإيثار النّبي “ص” أهل الصفة والأرامل حين سألته فاطمة، وشكت إليه الطحن والرّحى: أن يخدمها من السّبي، فوكلها إلى الله»، كما رواها مسلم بأسانيد عدّة أيضاً، ورواها كذلك عن أبي هريرة قائلاً: «إنّ فاطمة أتت النّبي “ص” تسأله خادماً وشكت العمل، فقال: ما ألفيتيه عندنا، قال: ألا أدلّك على ما هو خير لك من خادم؟ تسبحين ثلاثاً وثلاثين، وتحمدين ثلاثاً وثلاثين، وتكبّرين أربعاً وثلاثين، حين تأخذين مضجعك». [صحيح مسلم، مصدر سابق: ص89]، وهناك زيادات أخرى رويت في الصّحاح وغيرها أيضاً من قبيل: «قال علي: ما تركته منذ سمعته من النّبي “ص”، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين»، ولا يعنينا التعرّض لها فعلاً ولا استقصاؤها، بقدر ما يهمّنا الإشارة إلى أصل الحادثة وتوثيقها، كما لا نتحدّث عن توفّر السّبي بعد ذلك ومنح الرّسول “ص” خادماً لعلي وفاطمة “ع” منه كما تحدّثت بعض النّصوص.
#والرّواية أعلاه لا تختصّ بتراث السُنّة لكي يتوهّم الملقَّن العاطفيّ وضعها ومنحوليّتها؛ فيتّهم الجهاز الأموي والعبّاسي بدسّها للحطّ من مقام عليّ وفاطمة… إلخ من سفاسف مذهبيّة يُلجأ إليها للهروب إلى الأمام وذرّ الرّماد في عيون البسطاء، بل هي مُجمع على صحّتها بين الفريقين، وروايات الحكم باستحباب أصل هذا التّسبيح في موروثنا الرّوائي كثيرة، والسّيرة العمليّة قائمة على ذلك؛ كما جزم الصّدوق المتوفّى سنة: “381هـ” بأصل هذه الحادثة وأوردها في كتابه الفتوائي من لا يحضره الفقيه وقال: «إنّ أمير المؤمنين [عليّاً] “ع” قال لرجل من بني سعد: أ لا أحدثك عنّي وعن فاطمة الزهراء، أنّها كانت عندي، فاستقت بالقربة حتّى أثر في صدرها، وطحنت بالرّحى حتّى مجلت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضرّ شديد، فقلت لها لو أتيت أباك فسألتهِ خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل، فأتت النّبي “ص” فوجدت عنده حدّاثاً فاستحيت فانصرفت…إلخ». [من لا يحضره الفقيه: ج1، ص320ـ 321؛ علل الشّرائع: ص366].
#وبعد وضوح هذه الحقيقة المتّفق عليها بين علماء الإسلام نعلّق بما يلي:
#حينما نُعطي للمسلم ـ خصوصاً المذهبيّ ـ هذا الموقف من رسول “ص” ونطلب منه التّعليق عليه نجده يقرّر قائلاً: «فقف أيّها القارئ الكريم وتأمّل جيّداً في هذا الخبر الشّريف المجمع عليه، فإنّ بضعة المصطفى “ص” وقرّة عينه الوحيدة تطلب منه من السّبي والغنائم خادماً ليعينها في مهام منزلها ويزيل عنها شيئاً من تعبها، وهو سلطان نافذ الكلمة، وراع مسيطر في وقته، بيده الأموال بل النفوس، وله القدرة بأعظم مظاهرها بحيث يقول ناعته: لم أر قبله و لا بعده مثله، مع ذلك كله يأمر ابنته الوحيدة و فلذة كبده الفريدة بالتّقوى، والقيام بواجب بيتها، والإكثار من ذكر ربها، ولم يرض أن يعطيها من بيت مال المسلمين خادماً… فخذ هذا مثالاً يلمسك الحقيقة جدّاً، في معرفة من حذا حذو الرّسول “ص”، ومن مال عن طريقته، ونأى بجانبه، وحاد عن سنته، ممّن يدّعي الخلافة بعده، فرسول الله “ص” هو الإمام المتّبع فعله، والرّئيس المقتفى أثره». [حاشية من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق].
#لكنّا حينما نُعطي هذه الحادثة للقارئ المحايد سنلاحظ موقفاً مختلفاً تماماً؛ إذ يقول مباشرة: لماذا يُسبى هؤلاء العبيد من الأساس ومن ثمّ يُسترقّون حتّى نطبّق العدالة الأخلاقيّة في توزيعهم فنمنع فاطمة ونقدّم أهل الصفّة وكأنّ هؤلاء يحقّ لهم أن يستعبدوا البشر؟! ولماذا نُخيّر هؤلاء بين الإيمان برسالة الرّسول أو السّبي والاسترقاق؟!
#والجواب: لا تفسير يُقنع النّابه لهذه الممارسة غير الإيمان بأنّ جزءاً كبيراً من أخلاقيّات ذلك الزّمان لا يمكنها تجاوز الّلحظة الزّمانيّة والمكانيّة الّتي نشأت فيها، وبالتّالي: فمهما طوّقنا رموز تلك المرحلة بأطواق كلاميّة أو فلسفيّة أو عرفانيّة ومن ثمّ أصوليّة، فلا يمكن افتراضهم نماذج نهائيّة في البعد الأخلاقي بحيث يصبحون هم المدار والمعيار في توزين الأفعال من هذا الحيث حتّى نهاية الدّنيا، وهذا هو معنى العقليّة القبليّة للقيم الأخلاقيّة والّتي يتمّ تناولها في أبحاث فلسفة الأخلاق، لا أنّ القيم الأخلاقيّة هي ما يقرّره الدّين، ولهذا قلنا ونقول: إنّ أخلاق الرّسول “ص” ينبغي أن تقدّر بقدرها، ومن غير هذه الحقيقة المرّة فلن تسمع سوى ترقيعات وسفاسف، تتحدّث لك عن أخلاق الرّسول “ص” الّتي لا يُدانيها بشر حتّى قيام يوم الدّين، وفي الوقت نفسه تنقل عنه صحاحهم ممارسته وإقراره للسّبي والاسترقاق والقتل والذّبح مهما كان مبرّرها، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الرّسول_المذهبي