تأمّلات في واقعيّة وصيّة الصّادق “ع” إلى خمسة!!

#عقد الكليني في كتابه الكافي باباً حمل عنوان: «باب الإشارة والنصّ على أبي الحسن موسى [الكاظم] “ع”»‏، وقد ضمّن هذا العنوان ستّ عشرة رواية ادّعى دلالتها على ذلك، وقد أوضحنا الكلام في الضّعف السّندي والمضموني والتّاريخي لمعظم هذه الرّوايات في السّابق من المقالات فلا نعيد، لكنّ ما يهمّنا في هذا المقال هو الرّواية الثّالثة عشر والرّابعة عشر منهما؛ لما فيهما من زوايا نظر تاريخيّة نظنّ إنّ إلقاء النّظرة الفاحصة عليها سيزعزع كثيراً من القناعات المذهبيّة والمنبريّة المتداولة.
#كشفت هاتان الرّوايتان عن وصيّة غريبة للإمام الصّادق “ع” اُدّعي فيها وصيّته “ع” إلى خمسة من بينهم المنصور الدّوانيقي، وقد ذهب علماء الشّيعة إلى إنّ هذه الوصية العامّة جاءت من أجل الحفاظ على الإمام الكاظم “ع” من القتل، ونجد من المناسب استعراض هاتين الرّوايتين بشكل حرفي ليتسنّى لنا التّعليق بعد ذلك عليهما؛ فقد روى الكليني «عن علي بن محمد عن سهل، أو غيره [!!]، عن محمد بن الوليد، عن يونس، عن داود بن زربي، عن أبي أيوب النحوي، قال: بعث إليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل فأتيته فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب، قال: فلمّا سلّمت عليه رمى بالكتاب إليّ وهو يبكي، فقال لي: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد [الصّادق “ع”] قد مات، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ثلاثاً، وأين مثل جعفر! ثمّ قال لي: أكتب، قال فكتبت صدر الكتاب ثم قال: أكتب إن كان أوصى إلى رجلٍ واحدٍ بعينه فقدّمه واضرب عنقه، قال: فرجع إليه الجواب: أنّه قد أوصى إلى خمسة، وأحدهم أبو جعفر المنصور، ومحمد بن سليمان، وعبد الله [الأفطح]، وموسى [الكاظم] وحميدة». كما جاء في الرّواية الّتي تلتها ما يلي: «[عن] علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النضر بن سويد، بنحو من هذا، إلا أنّه ذكر أنّه أوصى إلى أبي جعفر المنصور، وعبد الله، وموسى، ومحمد بن جعفر، ومولى لأبي عبد الله “ع”، قال: فقال أبو جعفر [المنصور] ليس إلى قتل هؤلاء سبيل». [الكافي: ج1، ص310ـ 311].
#وقد استند علماء الشّيعة إلى هاتين الرّوايتين ذات المضمون الواحد تقريباً لادّعاء وجود ظروف قاهرة وتّقيّة مكثّفة وشّديدة بالنّسبة لشخص الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” في المدينة المنوّرة، وهذا هو الّذي يبرّر ـ على حدّ قولهم ـ عدم تنصيصه “ع” على اسم وشخص خليفته من بعده بل لم يُخبر بذلك حتّى خُلّص أصحابه، فوقعت شيعته جرّاء ذلك في حيرة وضلال وافتراق!! قال المجلسي: «ووجه التّقية في تشريك هؤلاء ظاهرٌ، ومع ذلك أوضح الأمر: إذ معلوم أن ذكر منصور [!!] بن سليمان للتقية، ومعلوم أيضاً أنّ حميدة لم تكن قابلة للإمامة، فبقي الأمر متردّداً بين الولدين، ولو كان الأكبر قابلاً للإمامة لم يضمّ إليه الأصغر، فبين “ع” بذلك أنّه غير قابل لذلك، فتعيّن موسى [الكاظم] “ع” [!!]» [مرآة العقول: ج3، ص337].
#وقد سجّلنا ملاحظات هامّة على هذا النّحو من التّفكير وأكّدنا على إنّ عموم روايات هذا الباب هي من قبيل الأدلّة بعد الوقوع كما اصطلحنا؛ إذ لو كانت موجودة ومتوافرة لما غابت عن خُلّص أصحاب الصّادق “ع” وحوارييّه في تلك الفترة، وهذا من الواضحات، ولكن بودّي أن أعلّق تعليقات سريعة على هاتين الرّوايتين لنوضح للقارئ جانباً يسيراً جدّاً من الحقيقة الّتي غيّبت عنه لأسباب مذهبيّة:
#الملاحظة الأولى: حينما نسأل كبير محدّثي الشّيعة ـ أعني المجلسي ـ عن شخص محمد بن سليمان الوارد في هذه الرّواية يجيبنا بأنّه: «والي المدينة من قبل المنصور [!!]» [مرآة العقول: ج3، ص337]، وهذا من الغرائب؛ إذ لا يوجد في المدينة والٍ اسمه محمد بن سليمان فضلاً عن أن يكون اسمه منصور بن سليمان كما ذكره نفس المجلسي أيضاً، بل إنّ واليها في تلك الفترة هو جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب، ابن عمّ المنصور الدّوانيقي، ومن البعيد جدّاً أن يكون الأمر تصحيفاً أو خطأ مطبعيّاً؛ لأنّ هذا الاسم تكرّر مرّتين في نفس الرّواية، وقد تناقله وتداوله عموم المحدّثين من بعد الكليني ولم يُشر ولا واحد منهم إلى وقوع الخطأ أو التّصحيف فيه وكأنّ على رؤوسهم الطّير؛ فلا الطّوسي في الغيبة؛ ولا الطبرسي في أعلام الورى؛ ولا أبن شهر آشوب في المناقب؛ ولا المازندراني في شرح أصول الكافي؛ ولا الفيض الكاشاني في الوافي؛ ولا الحرّ العاملي في إثبات الهداة، ولا هاشم البحراني في حليّة الأبرار وفي بهجة النّظر؛ ولا المجلسي في مرآة العقول والبحار؛ ولا الجّزائري في رياض الأبرار؛ ولا عبد الله البحراني في عوالم العوالم؛ ولا النّوري في مستدرك الوسائل؛ ولا البروجردي في جامع الأحاديث… نعم جميع هؤلاء أرسلوا الرّواية إرسال المسلّمات ولم يشيروا إلى احتمال الخطأ أو الاشتباه في الاسم المُشار إليه، بل ولم يشيروا ـ ولو من باب التّذكير ـ إلى عدم وجود والٍ في المدينة بهذا الاسم أيضاً؛ ونقلُ وتداول جميع هؤلاء المحدّثين للرّواية باسم: «محمد بن سليمان» من دون التّنبيه إلى هذا الخطأ الواضح ينفي نفياً قاطعاً احتمال التّصحيف أو الخطأ أو الاشتباه في ذكر هذا الاسم، ويؤكّد بوضوح على كون الرّواية تحمل خللاً مضمونيّاً واضحاً لا يسوّغ الحكم بصحّتها بحال من الأحوال، نعم؛ نقل المرحوم ابن طاووس في كتابه مهج الدّعوات الرّواية باسم: جعفر بن سليمان في المرّة الأولى، واكتفى بسليمان في المرّة الثانية، وهذا الأمر لا قيمة له ما دام إجماع المحدّثين الشّيعة قائماً على نقلها بصيغة محمد بن سليمان.
#الملاحظة الثّانية: كان لجعفر بن سليمان [ وهو والي المدينة من أواخر عام: “146 وحتّى عام: 149هـ”] أخ ثريّ جدّاً اسمه محمد بن سليمان”122ـ 173هـ”، وأمّه بنت جعفر بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب “ع”، وكان هذا الأخير والي الكوفة في أيّام رحيل الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” في شوّال من عام: “148هـ” كما هي أشهر الرّوايات عندهم، ومن المستبعد جدّاً أن يكون هو من أرسل الكتاب إلى المنصور الدّوانيقي لأنّه ليس الجّهة المعنيّة بالأمر مهما حاولنا توجيه ذلك؛ كما إنّ أمر المنصور له بقتل وصيّ الصّادق “ع” إذا كان واحداً ووصول جواب المكاتبة بعد ذلك في كون الوصيّة في خمسة، يكشف عن إنّ من كاتبه المنصور هو واليه في المدينة حسب فرضيّة الرّواية وليس الّذي في الكوفة، وإلّا فما هي السّلطة الّتي يتملّكها والي الكوفة لقتل مواطن من المدينة الّتي تبعد عنه مسير عشرات الّليالي والأيّام، و تقع صلاحيّة مؤاخذته بيد والي المدينة جعفر بن سليمان في ذلك الوقت؟! نعم ستصحّ هذه الرّواية إذا كان الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” قد توفّي في الكوفة وهذا واضح البطلان.
#الملاحظة الثّالثة: الملاحظ إنّ الكليني نصّ على إنّ الرّاوي المباشر لهذه الرّواية هو أبو أيّوب النّحوي، لكنّ الطّوسي نصّ في كتابه الغيبة على إنّه أبو أيّوب الخوزي مع دمج نصّ الرّواية الثّانية مع الأولى، وآخرون نصّوا على إنّه الحوزي أو الجّوزي، ولم تذكر كتب معظم التّراجم الشّيعيّة ترجمة لهذا الرّجل سوى كونه وزيراً للمنصور الدّوانيقي، ويبدو إنّ الخوزي أو الجّوزي هو الصّحيح؛ فقد نصّت كتب التّراجم والتّاريخ السُنّيّة على إنّ أبا أيّوب هو: سليمان بن أبي سليمان، وكنيته: أبو أيّوب المورياني، أو الجوزي، أوالخوزي نسبة إلى خوزستان أو خوز مكّة أو نسبة لبخله، وهو كما يعبّر عنه الذّهبي من دهاة العالم، وهو الّذي احتال على المنصور فجعله يعزل خالد البرمكي من الوزارة ويستوزره بعد موت السّفاح، لكنّ المنصور غضب عليه بعد ذلك لأسباب اختلف المؤرّخون فيها فحبسه وحبس أخاه وبني أخيه وفعل ما فعل بهم وصادر جميع أموالهم… ومات أبو أيّوب بعدها في سنة: “154هـ”، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن التّصديق بنقل داهية مثله في مثل هذه الأمور الخطيرة ومن هو الّذي يضمن أن لا تكون حيلة ودهاءً منه لأغراض خاصّة وهو المعروف بتزوير الكتب والرّسائل أيضاً، بل ومحاولة بناء الإمامة الشّيعيّة بصيغتها المتداولة وعرضها العريض على أمثال هذه النّصوص المهلهلة؟!
#الملاحظة الرّابعة: لقد نصّ الكشّي على إنّ الرّاوي الثّاني لهذه الرّواية ـ أعني داود الزّربي ـ هو من خاصّة هارون الرّشيد، وقد احتمل غير واحد من الرّجاليين آخرهم المرحوم الخوئي اتّحاده مع داود بن رزين؛ إذ لا يوجد ذكر للأخير في كتب الحديث حسب قولهم، وقد أهمله الطّوسي وادّعى ابن داود والعلّامة التّنصيص على وثاقته من قبل النّجاشي، ولكن حينما نعود إلى النّسخة المتداولة من رجال النّجاشي لا نجد لهذا التّوثيق ذكراً، ومهما حاولنا توجيه وثاقته إمّا بالاكتفاء بالتّوثيق العامّ لابن عقدة أو برواية الأجلّاء عنه أو ما شابه ذلك إلّا إنّ روايته في هذا الخصوص ممّا تحتاج إلى تأمّل، والغريب إنّ داود نفسه الّذي كان من خاصّة الرّشيد العبّاسي كما نصّوا روى رواية ادرجها الكليني في باب “الإشارة والنّص على الرّضا “ع”، وهذا ما سنتوقّف عنده متأمّلين قريباً إن شاء الله تعالى.
#الملاحظة الخامسة: إنّ هاتين الرّوايتين هما روايتان عن غير الإمام كما عدّهما غير واحد من الرّجاليّن في سياق المؤاخذة على منهج الكافي في تسجيله للرّوايات، وبالتّالي فهما كاشفتان عن حدث تاريخي لا بدّ من تجميع القرآئن في سبيل التّحقّق من واقعه ولا يكفي التحقّق من سلامة السّند في إثبات ذلك، فلا معنى لذكرهما في عداد الرّوايات النّاصة على إمامة الكاظم “ع” إلّا من باب زيادة العدد ليس إلّا، وما تكلّف به بعض المعاصرين من توجيه نسبتها إلى الإمام “ع” من خلال بيان إنّ الوصيّة الّتي فيهما هي قول للإمام غير سديد؛ وذلك لأنّ هذا يعني تحوّل معظم الكتب التّاريخيّة إلى نصوص روائيّة لأنّها نقلت أفعالاً وممارسات عن النّبي “ص” والإئمّة “ع”، ولا نظنّ إنّ هذا مما يمكن الالتزام به دون مراعاة الشّروط المذكورة.
#الملاحظة السّادسة: إذا أردنا أن ننساق وراء المعايير الرّجاليّة في تقييم هاتين الرّوايتين فنجد إنّهما مبتليتان بالضّعف والإرسال والجّهالة ولا حاجة لإطالة الحديث فيهما بعد وضوح التّعليقات أعلاه.
#وأخيراً: هناك ملاحظات جمّة حول سند ومضمون هاتين الرّوايتين تركنا التّعرض لها إلى مناسبات أخرى خشية الإطالة، ولكن ما أتمنّاه على خطباء المنبر الحسيني بالخصوص أن لا ينساقوا وراء المسلّمات المذهبيّة في نقل وعرض مفرداتهم وهم يشرحون تاريخ أهل البيت الأطهار “ع”؛ فالواقع مختلف كثيراً عمّا تربّواً، والحقيقة تتطلّب تجرّداً وعمقاً ودقّةً وضريبةً كبيرةً في نفس الوقت، والله الهادي إلى سبيل الصّواب.