تأمّلات في روايات تقديم الحجّ على العتق والصّدقة!!

27 أغسطس 2017
1505

#يحاول بعض الإسلاميّين أن يجيبوا المعترض على ظاهرة الاسترقاق الموجودة في النّصوص الإسلاميّة بعرضها العريض وبوفرة أيضاً بأنّ الإسلام لم يكن قادراً على التّخلّص من هذه الظّاهرة المقيتة بجرّة قلم واحدة منذ الّلحظة الأولى، بل بادر إلى طرح حلول ممرحلة من خلال ذكر مجموعة حوافز وضوابط وقيود تهيّأ الأرضيّة شيئاً فشيئاً للتّخلّص منها؛ فتجد عتق الرّقبة حاضراً في باب الكفّارات والقصاص وأمثالها من الأبواب الفقهيّة كعوامل ترهيب وترغيب من أجل نبذ الاستعباد والاسترقاق بغية القضاء عليه نهائيّاً.
#ومع إغماض الطّرف عن حقّانيّة هذا الجّواب وعدمها لكن المشكلة البارزة فيه تكمن في تنافيه مع بعض مرويّات المدوّنة الفقهيّة الشّيعيّة والّتي فهم الفقهاء منها الإطلاق والعموم انسياقاً مع طوق المقولات الكلاميّة والأصوليّة الّتي طوّقوا بها أنفسهم؛ فنلحظ المرحوم اليزدي صاحب العروة مثلاً ينصّ بصريح العبارة قائلاً: «الحجّ أفضل من الصّدقة في نفقته»، وهذه الفتاوى المطلقة وأمثالها سبّبت لنا في العصر الحاضر مشاكل كثيرة سواء على مستوى تحديد الأولويّات الإسلاميّة والأخلاقيّة أو على مستوى حرمان جملة من المستطيعين للحجّ الواجب من الذّهاب إلى مكّة نظراً لإشغال مقاعدهم من قبل أصحاب الحجّ المستحبّ أصالة ونيابة أيضاً.
#ولكي نعمّق هذه الفكرة ونفتح باب الإشكال عليها أجد من الّلازم ذكر رواية صحيحة أو معتبرة عندهم لننتقل بعد ذلك لتقويمها وفق المنهج المدرسي المتعارف ووفق المنهج المختار الّذي ندفع باتّجاه سلامته؛ فقد سأل رجل أبا حنيفة ذات يوم هذا السّؤال: ما ترى في رجل قد حجّ حجّة الإسلام أ يحجّ مرّة ثانية أفضل أم يعتق رقبة؟ فأجابه أبو حنيفة: عتق الرّقبة أفضل… فنُقلت هذه الحادثة إلى الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” فعقّب قائلاً كما هو المروي: “كذب والله وأثم؛ لحجة أفضل من عتق رقبة ورقبة ورقبة حتّى عدّ عشراً، ثمّ قال: ويحه في أيّ رقبة طواف بالبيت وسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة وحلق الرأس ورمي الجمار، لو كان كما قال لعطّل النّاس الحجّ، ولو فعلوا كان ينبغي للإمام أن يُجبرهم‏ على الحجّ إن شاءوا وإن أبوا؛ فإنّ هذا البيت إنّما وضع للحجّ» [الكافي: ج4، ص259].
#وقد استظهر الفقهاء من هذه الرّواية وأضرابها من النّصوص المستفيضة عن خصوص الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” تقديم الحجّ المستحبّ على العتق والصّدقة بعرضها العريض أيضاً؛ والسّؤال الجّدير بالإجابة ما يلي: إذا كان الإسلام قد ذكر شروطاً للتّخلّص من ظّاهرة الاسترقاق والاستعباد وسعى حثيثاً من أجل نبذها وطردها فلماذا يخالف الصّادق “ع” هذا المسار ليفتح المجال للفقهاء من بعده لاستظهار حكم عام يقدّم الحجّ المستحبّ على العتق والصّدقة في جميع الظّروف والأحوال؟!
#يبدو لي إنّ هذه الرّواية وأخواتها تضع الفقهاء بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يلتزموا بأنّ الإسلام أقرّ العبوديّة ولم يؤسّس لفقه مرحلي في سبيل التّخلّص منها وإنّ هذه الرّواية وأخواتها لم تخالف هذا المسار؛ وإمّا أن يلتزموا بأنّ الإسلامّ ركّز مساره الممرحل في مخالفة العبوديّة وبادر لتأسيس فقه بهذا المواصفات فعليهم حينئذ أن يقدّموا تفسيراً معقولاً لهذه الرّواية وأخواتها إمّا بنحو يُعطي للحجّ المستحبّ قيمة دينيّة أكبر من تحرير رقبة إنسان أو إعانة فقير ومحتاج وإمّا بنحو يمنع من استظهار حكم شرعيّ مطلق صالح لكلّ زمان ومكان من هذه الرّواية ومثيلاتها كما نوّهنا، والظّاهر من خلال الإفتاء العامّ الّذي نلحظه في المدوّنة الفقهيّة الشّيعيّة وسيرة مراجعهم وقياداتهم الدّينيّة وبعثاتهم… هو ميلهم لتقديم الحجّ المستحبّ على غيره من المصاديق الأخلاقيّة قبل أن تكون دينيّة.
#أمّا على أساس المنهج الاجتهادي المختار فالأمر عنده محلول من البداية؛ إذ لا يؤمن بوجود إطلاق لمثل هذه النّصوص تشمل غير مخاطبها الزّماني ليصار حينذاك إلى مرحلة البحث عن قدرها المتيقّن للتّمسّك به أصلاً، بل نعتقد إنّ هذه النّصوص لحظت حالة خاصّة حكمت تلك المرحلة فهم الإمام من خلالها إنّ دفع النّاس نحو الصّدقة والعتق سيؤدّي إلى ترك البيت الحرام خالياً لا حاجّ ولا معتمر فيه، وهذا الأمر يعتبر خطّاً أحمر بالنّسبة للمشرّع الإسلامي الّذي حرص على ربط العبيد بخالقهم سنويّاً عن طريق هذه الشّعيرة العظيمة والّتي توفّر للإمام في حينها فرصة كبيرة للتّعليم والإرشاد، وإلّا فإنّ التّمسّك بإطلاقها في جميع الأحوال والأزمان ـ وخصوصاً في ظروفنا المعاصرة ـ يعني مخالفة محكمات القرآن والسُنّة القطعيّة وأهداف الشّريعة ومقاصدها بل ونصوص صادرة من نفس الإمام الصّادق “ع” أيضاً، وهذا ما نعدّه عامّاً فوقانيّاً حاكماً على جميع النّصوص الرّوائيّة.
أمّا القرينة الدّاخليّة الّتي استندنا إليها في هذا التّقييد فهي الذّيل الوارد في نفس هذه الرّواية؛ حيث منحت الإمام ـ أي الخليفة والوالي ـ صلاحيّة إجبار النّاس على الحجّ إذا رأى عزوفهم عنه وهذا يؤكّد لنا عدم وجود إطلاق أزمانيّ في الرّواية يصلح للإفتاء العامّ؛ حيث يعرج الملايين من النّاس في عصرنا إلى الحرم المكّي سنويّاً ولا يبقى البيت الحرام لحظة واحدة فارغاً في موسمه، على إن دفع النّاس نحو الحجّ المستحبّ سنويّاً أوجب حرمان أعداد كبيرة من المسلمين الّذين تعلّق الحجّ الواجب بذممهم نظراً لإشغال مقاعدهم، فضلاً عن الازدحام الرّهيب الّذي يحصل هناك ويسبّب حوادث مميتة شهدناها في السّنوات القريبة الماضية، نعم الحجّ فريضة عظيمة وركن ركين في العبادات الإسلاميّة لكن هذا شيءآخر ليس له علاقة بما نحن بصدد بيانه في هذا الإيجاز، والله من وراء القصد.
#ملاحظة هامّة: ذكرنا في أصل المقال إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب مرويّة عن خصوص الإمام الصّادق “ع”، وأمّا الرّواية الّتي رواها الصّادق “ع” عن النّبي “ص” في قصّة ذلك الإعرابيّ الموسر الّذي خرج للحجّ ولم يُدركه فهي بقرينة كون السّائل إعرابيّاً ظاهرة في الحجّ الواجب، ومعارضتها بنصوص روائيّة أخرى، ومقيّدة بالعامّ الفوقانيّ الّذي تحدّثنا عن آنفاً أيضاً، فالعمدة هي روايات مرحلة الصّادق “ع” وتجاذباتها والّتي كانت معركة للآراء حتّى بين أصحابه حول الاستطاعة وشروطها فتأمّل.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...