لا يخفى عليك: إنّ الميزان في عرفيّة الكلام ودستوريّته الدّينيّة الدّائميّة لعموم العباد والبلاد على اختلاف ألسنتهم وألوانهم هو: الوضوح المتكافئ بين نوع مخاطبيه، بمعنى: أنّك إذا ألقيت الكلام كما هو إليهم فسيشتركون جميعاً في فهم معنى واحد منه على اختلاف تعليمهم ولغاتهم، دون أن يجدوا في ذلك أيّ تعارض وتصادم وتضادّ، وعلى هذا الأساس تترتّب العقوبة والمثوبة، والّتي هي حاصل المنجزيّة في عرف الأصوليّين.
المؤسف: أنّ النصّ القرآني بصيغته الواصلة يعاني من أزمات كثيرة جدّاً من هذا الحيث، بحيث إنّك إذا أعطيت آيات منه إلى المخاطب العرفي المحايد فسيحير في تفسيرها، ويشرّق ويغرّب في فهمها، دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، لكن حيث إنّ المخاطب المتديّن مسكون ببدعة أنّ هذا النصّ حاصل اهتمام واكتراث وجديّة سماويّة، وأنّه بهذه الصّيغة قد نزل أو صدر ليكون دستوراً دينيّاً دائميّاً حتّى نهاية الدّنيا، فلا يجد من مندوحة أمامه غير ابتداع وجوه لا نهائيّة من التّأويل والتّرقيع، بل وحتّى ادّعاء بداهة تبادر هذا المعنى الّذي رقّعه وأوّله أيضاً، وهذا هو السّبب الأساس الّذي يكمن وراء تضخّم ما يُسمّى بعلوم القرآن وظاهرة التّفاسير الكثيرة.
ينبغي أن نُذعن: أنّ هذا النّص لم يُنتج ليكون دستوراً دينيّاً دائميّاً كما بيّنا في محلّه؛ إذ إنّ ذلك فرع البيان التّام، والبيان التّام يقتضي من صاحبه سلوك طريق يَغلِق نوافذ الهروب أمام من يُراد جعل هذا النصّ دستوراً له، والطّريق البشريّ الحصريّ الممكن لذلك في تلك الأزمنة هو الكتابة والتّقييد والإشهاد عليه من قبل المعنيّ بالأمر نفسه أو بإشرافه المباشر، وهو منفيّ في المقام، فتمّ المطلوب، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.