ثمّة حوارات قرآنيّة رائعة ـ وكلّ ما في القرآن رائع ـ لا يمكن للإنسان الباحث عن الحقيقة أن لا يجعلها بوصلة ومناراً لحركته ومرهماً ومسكّناً لجروحاته، ومن أهمّ هذه الحوارات هي: الحوار الّذي دار بين إبراهيم وأبيه، والّذي كشفت عنه الآيات: “42ـ50″ من سورة مريم، وهي آيات لا ينبغي حصرها في قضيّة خارجيّة وقعت في يوم من الأيّام ومضت وتصرّمت، بل هي صورة بشريّة متكرّرة يصوغها القرآن على شكل قصص بأبطال معروفين، ويدعو النّاس إلى التّامّل فيها بمعزل عن قبليّاتهم الدّينيّة والمذهبيّة، فلنلاحظها معاً بإمعان ونطبّقها بعد ذلك على واقعنا المذهبي المعاصر… قال تعالى:
#وأذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صدّيقاً نبيّاً.
#إذ قال لأبيه:
أوّلاً: #يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يُغني عنك شيئاً”؟!
وثانياً: #يا أبت إنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتّبعني أهدك صراطاً سويّاً”.
وثالثاً: #يا أبت لا تعبد الشّيطان إنّ الشّيطان كان للرّحمن عصيّاً”.
ورابعاً: #يا أبت إنّي أخاف أن يمسّك عذاب من الرّحمن فتكون للشّيطان وليّاً”.
وبعد جميع هذه الخطابات وإلقاء الحجّة تلو الحجّة جاء الجّواب من أبيه:
#أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟! لئن لم تنته لأرجمنّك واهجرني مليّاً”.
وهنا بدأت مرحلة العزلة الإبراهيميّة الإيجابيّة بعد أن خاطب أباه قائلاً:
#سلام عليك سأستغفر لك ربّي إنّه كان بي حفيّاً”.
#وأعتزلكم وما تدعون من دون الله، وأدعو ربّي عسى ألّا أكون بدعاء ربّي شقيّا.
وبعد هذه العزلة البحثيّة الضّروريّة بدأت النتيجة الإلهيّة تظهر وتتجلّى حيث قال تعالى:
#فلّما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلّا جعلنا نبيّاً، #ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّاً.
#أجل؛ لا يمكن أن نصل إلى نتائج مغايرة لما تربّينا عليه مذهبيّاً بشكل خاطئ ما لم نوفّق لعزلة بحثيّة إيراهيميّة إيجابيّة، ومن غير ذلك فالنتيجة ستكون: “نفس الطّاس ونفس الحمّام”، بل وربّما أتعس أيضاً، فتأمّل.