الرّسول، زيد، زينب، إشكاليّة الصّراحة!! الحلقة الثّالثة والأخيرة

#وبعد أن استعرضنا النّماذج الرّوائيّة المتقدّمة يحسن بنا إيراد بعض التّعليقات بعيداً عن التّأويلات الغريبة الّتي حملها بعضها:
#الأوّل: اقتصر ابن حجرّ على ذكر الرّوايتين الأخيرتين وأشار إلى وجود روايات أخرى أخرجها ابن أبي حاتم والطّبري ونقلها كثير من المفسّرين، لكنّه نصّ على عدم انبغاء التّشاغل بها، وأنّ ما أورده هو المعتمد، وأنّ المحصّل هو: «أنّ الّذي كان يخفيه النّبي “ص” هو إخبار الله إياه أنّها ستصير زوجته، والّذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول النّاس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التّبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الّذي يُدعى ابناً، ووقوع ذلك من إمام المسلمين؛ ليكون أدعى لقبولهم، وإنّما وقع الخبط في تأويل متعلّق الخشية، والله أعلم». [فتح الباري، مصدر سابق، المعطيات نفسها].
#الثّاني: إذا أردنا الإيمان بسلامة التوجيه الّذي استظهره ابن حجر وعموم مقلِّدته من نماذج الرّوايات المتقدّمة سنلاحظ: أنّ معقوليّته تتوقّف على أن يكون هذا الإعلام قد حصل بعد طلاقها وأثناء فترة اعتدادها، وبالتّالي: من حقّ الرّسول أن يستحي ويخجل من إعلام النّاس بزواجه من طليقة ابنه بالتّبنّي؛ لما لهذا الأمر من تلقّ غير محمود في تلك الأوساط مثلاً، لا أنّ الإخبار والإخفاء قد حصل في فترة زواجها من زيد؛ وذلك: لأنّ السّبب الحصريّ المعقول الّذي يُمكن طرحه كتفسير للشّيء الّذي أخفاه الرّسول خشية من النّاس هو ميله القلبيّ لها وهي لا زالت في حبائل زوجها المنبعث من حتميّة زواجه المستقبليّ بها؛ وذلك لأنّ العيب العرفيّ المتصوّر في المقام أن يُخبر النّاس بأنّ فلانة المتزوّجة ستصبح زوجتي قريباً كما أخبرتني السّماء بذلك، لا فلانة المطلّقة بعد رفع السّماء الحرج عن الزّواج بها، ومن غير هذا سيصبح العيب عيبين: عيب الميل القلبيّ نحو المتزوجة، وعيب نيّته الزّواج من طليقة من تبنّاه، ولهذا قلنا: إنّ التّكملة الّتي حملتها الآية من انقضاء عدّتها والزّواج منها لهذا السّبب هو مطلب مستأنف غير معلول لما قبله.
#الثّالث: إذا أردنا الانسياق وراء حكاية أنّ الشّيء الّذي أخفاه الرّسول هو إخبار السّماء له بأنّ زينب ستصبح زوجته كما هو الرّأي الّذي رجّحه مشهور علماء الإسلام، فمن حقّنا أن نسأل: ما معنى أن تُخبر السّماء رسولها الخمسينيّ بأنّ هذه المرأة المتزوّجة ستكون زوجة مستقبليّة له وهي تعلم بأنّه سيخفي ذلك خجلاً وحياءً، وما هو حكم نظرات الرّسول إليها في تلك الحالة وماهو مقدار انضباط ميوله القلبيّة تجاهها، هل كان نظر الرّسول إليها في فترة زواجها من زيد وبعد إعلام السّماء له بزواجهما المستقبلي نظرة الأجنبيّ إلى الأجنبيّة أم نظرة الزّوج إلى حليلته؟! أ لم يمكن للسّماء أن تؤجّل إخبار الرّسول بهذا الموضوع وتطلب منه تنقيح موضوع طلاقها فقط وبعد الاعتداد تُخبره بهذا الخبر؟! أسئلة محيّرة تقف كعقبة كؤود أمام الانسياق وراء التستّر بهذا التّفسير للشّيء الّذي أخفاه الرّسول.
#الرّابع: يصغر زيدٌ الرّسول بعشر سنوات تقريباً وفقاً لما يُفهم من بعض الأخبار، وكان عبداً مخطوفاً اشترته خديجة قبل زواجها ووهبته للرّسول بعده كما هو ظاهر بعض الأخبار أيضاً، وأقرّ الرّسول بهذه العبوديّة والاسترقاق، وحينما جاء أهله لاستنقاذه طلب منهم تخييره بين البقاء عنده أو الرّجوع إلى أهله، والمنقول أنّه رفض العودة وفضّل البقاء مع الرّسول حتّى كان يُسمّى زيد بن محمّد، وكان قد زوّجه خادمته أمّ أيمن الحبشيّة فأنجبت أسامة، وكان زواجه من زينب في السّنة الخامسة من الهجرة، وبقي مع زوجته حدود السّنة أيضاً؛ لذا لا اتفاعل بالمُطلق مع قصّة أنّ الرّسول كان قد أخفى إعلام السّماء له بزواجه المستقبليّ من زينب؛ إذ لا أرى أيّ مبرّر عقلائي لذلك.
#الخامس: نحتمل أنّ هناك ميلاً قلبيّاً قبليّاً عند الرّسول نحو بنت عمّته بمعزل عن حادثة رؤيته لها وتفاصيل ما نقلته النّصوص في ذلك، سيّما إذا قلنا: إنّ أصل زواجها من زيد لم يكن خيارها، وكانت رغبتها الزّواج من الرّسول كما هو المنقول، ولهذا فلا نرى صحّة لمثل تلك التّأويلات البعديّة الّتي حملتها بعض النّماذج الرّوائيّة المتقدّمة، وهذه الممارسات منسجمة تمام الانسجام مع الطّبيعة البشريّة، وللخروج عن هذا الأصل نحتاج إلى دليل مثبت معتبر بحجمها وهو مفقود في المقام، بل أنّ النصّ القرآنيّ واضح في كاشفيّته عمّا ينسجم مع هذه الطّبيعة لا غير.
#السّادس: المعروف أنّ الرّسول كان قد زوّج زيداً من مملوكته أم أيمن، وقد كان حاصل هذا الزّواج هو: الصّحابي أسامة بن زيد كما نوّهنا آنفاً، ومن هنا فربّما يُقال: إذا كانت الغاية من زواج الرّسول من زينب هو تقديم درس عملي لإنكار فكرة عدم انبغاء الزّواج من طليقة المتبنّى فلِمَ لم يبادر الرّسول لذلك من البداية، ويُقدم على الزّواج من أمّ أيمن بعد انفصال زيد عنها، وبهذا يُعطي درساً بليغاً لا في قلع فكرة عدم تسويغ الزّواج من طليقة المتبنّى فحسب، بل في الزّواج من المماليك أيضاً، وهذا شاهد آخر يعزّز فكرة أنّ ما أخفاه الرّسول خشية من النّاس وقرّعه القرآن بعد ذلك بسببه ليس حكاية إخبار السّماء له بأنّ زينب ستكون زوجته المستقبليّة، وإنّما شيء آخر، نعم؛ ربّما يُستصعب ذلك بدعوى أنّ أمّ أيمن كانت بمثابة أمّه كما روي عنه ذلك، وهذا ما لم يثبت عندهم.
#السّابع: من الواضح أنّ مثل هذه النّصوص القرآنيّة تتحدّث عن حالة أسريّة خاصّة بشخص الرّسول وبيته الدّاخلي، وليس لها علاقة بأزمة مجتمعيّة عظيمة تتطلّب حلّاً سرمديّاً حاسماً؛ إذ لم نشهد تطبيقاً لهذه الفكرة وامتثالاً لها، كما أنّها لم تكن بهذا العرض العريض الّذي يتطلّب حلّاً عمليّاً بهذا الحجم الحجيم والاحراجات البالغة الّذي فيه.
#الثّامن: إذا كانت السّماء مهتمّة جدّاً بإلغاء فكرة التّبنّي ومخلّفاتها بنحو عامّ ـ وهذا قيد مهمّ جدّاً ـ فلا حاجة لإبراز اهتمامها عن طريق إظهار مثل هذا النّموذج المُقلق والّذي يثير أسئلة عدّة، وكان بإمكانها أن تصدر نصّاً واضحاً جليّاً في تحريمه وسينصاع المسلمون له فوراً كما انصاعوا لغيره، على أنّ الرّسول نفسه كان قد مارس فكرة التّبنّي لزيد وأقرّها، وكان بإمكانه أن يسلّمه إلى أهله دون تخييره أصلاً.
#التّاسع: إذا كان التّبنّي قد حُرّم قبل ذلك، وأنّ زيجات المتبنَّين سابقاً مستمرّة ولا مشكلة فيها، فأيّ حرج سيحصل للمؤمنين بعد ذلك؛ إذ لا يوجد هناك أبناء قد طلّقوا زوجاتهم كي يتحرّج آباؤهم بالتبنّي من الزّواج بطليقاتهم، وهذا يؤكّد أنّ أمثال هذه الآيات جاءت لمعالجة ظاهرة آنيّة فرديّة شخصيّة ابتلي بها الرّسول في لحظتها، ولا نظنّ أنّ ظاهرة مكوث طليقات الأبناء بالتبنّي عامّة ومنتشرة ومستحكمة بحيث اضطرّت السّماء إلى مثل هذه العمليّة المُعقّدة من أجل رفعها واستئصالها من الأمّة، وكان بالإمكان رفعها ـ كما نوّهنا آنفاً ـ بنصّ واضح جليّ كما في النّصوص القرآنيّة الأخرى الحازمة والجازمة والّتي يمتثل لها المسلمون فوراً دون تردّد.
#العاشر: أصبح موضوع التّبنّي ضرورة مجتمعيّة عقلائيّة يتّفق على سلامتها عقلاء البشر، ومن غير المعقول معرفيّاً الذّهاب حتّى الأخير في تحريمها انسياقاً مع قصّة شخصيّة من هذا القبيل، ولهذا قلنا ونقول: إنّ أمثال هذه النّصوص الأسريّة خير شاهد على أنّ السّماء لم تكن مكترثة ولا جادّة ولا قاصدة لتحويل النّصوص القرآنيّة الصّوتيّة إلى مادّة مكتوبة ناهيك عن قصديّتها لتعميمها على أنّها دستور دينيّ دائميّ لعموم الدّنيا حتّى نهايتها، وإنّما عمد بعض صحابته في سياقات قناعات اجتهاديّة معيّنة.
#فتحصّل ممّا تقدّم: إنّ وجود الميل القلبي للرّسول تجاه زينب ـ بغضّ الطّرف عن مقداره وطبيعته وأسبابه ـ ممّا لا يمكن نفيه، وأنّ من الصّعوبة بمكان استنتاج حكم شرعيّ عام يقرّر حرمة التّبنيّ استناداً إلى هذه الآية الأسريّة الخاصّة؛ إذ لم تكن السّماء مهتمّة بتدوين هذه النّصوص الّتي لا تعني الفرد المسلم بشيء، فليُتّأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الرّسول_المذهبي