#بعد التّسوية الّتي طرحها الحرّ بن يزيد الرّياحي والّتي قبلها الحسين بن عليّ “ع” من ضيق الخناق، بدأ التّياسر في الطّريق يستمرّ، والحرّ يحافظ على حدوده ومساره، حتّى انتهوا إلى قصر بني مقاتل، «فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثمّ عجل الرّكوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم، فيأتيه الحرّ بن يزيد فيرده وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّا شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتياسرون كذلك حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الّذي نزل به الحسين “ع” فإذا راكب على نجيب له عليه السّلاح متنكب قوساً مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلّم على الحرّ وأصحابه، ولم يسلّم على الحسين وأصحابه، ودفع إلى الحرّ كتاباً من عبيد الله بن زياد، فإذا فيه: أما بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، ولا تنزله إلّا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسّلام»، فأخبرهم الحرّ بفحوى كتاب أميره ابن زياد، وإنّه مأمور بجعجعتهم في هذا المكان، وإنّ الرّسول لن يفارقه حتّى ينفّذ أمر الأمير.
#إلى هنا ينتهي دور الحرّ الرّياحي كقائد ويتحوّل إلى جندي مقاتل، ويبدأ الدّور لعمر بن سعد؛ والّذي قدم في الصّباح من الكوفة مع جيش يقدّر بأربعة آلاف فارس، ولمّا نزل بعث عروة بن قيس الأحمسي إلى الحسين “ع” وطلب منه أن يسأله عن السّبب الّذي جلبه إلى هنا وماذا يُريد، لكن حيث إنّ عروة ممّن كاتب الحسين “ع” فقد خجل منه واستحى، فعرض ابن سعد المهمّة على الرّؤساء الآخرين الّذين كاتبوه فأبوا كلّهم ورفضوا مواجهة الحسين “ع” أيضاً، وكيف كان فقد ذهب شخصٌ يُسمّى قرّة بن قيس الحنظلي التّميمي وأبلغ الحسين “ع” رسالة عمر بن سعد، فأجابه “ع” قائلاً: «كتب إليّ أهل مصركم هذا: أن أقدم، فأمّا إذ كرهتموني فأنا أنصرف عنكم».
#ولمّا أبلغ قرّةٌ عمرَ بن سعد بجواب الحسين “ع” قال عمر: «أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله»، وكتب إثرها إلى عبيد الله بن زياد: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد: فإنّي حين نزلت بالحسين بعثت إليه رسلي فسألته عمّا أقدمه، وما ذا يطلب؟! فقال: كتب إليّ أهل هذه البلاد، وأتتني رسلهم يسألونني القدوم، ففعلت، فأما إذ كرهوني وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم، فأنا منصرف عنهم».
#ولحدّ هذه الّلحظة كان الحسين بن عليّ “ع” واضحاً جدّاً في بيان سبب قدومه إلى الكوفة، ومكذّباً بنحو عمليّ كلّ الأخبار والرّوايات المولودة لاحقاً والّتي تتحدّث عن أنّ قصده كان الخروج لأجل الشّهادة، ولأجل هذا أخرج معه العيال والأطفال؛ لأنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا ويراه قتيلاً…إلخ من منحولات ولدت في سياق ما اصطلحنا عليه “الحسين المذهبي” المولود لاحقاً، وإلّا فعلينا أن نفترض أنّ الحسين كان يمارس في جميع هذه المفاوضات دور الممثّل البارع فقط، بل وكان يُلقي الحجّة، ولا ندري أين هي الحجّة الّتي ألقاها وهو يطلب منهم العودة إلى بلده فقط؟!
#نعود لإكمال المشهد؛ حيث أجاب ابن زياد رسالة ابن سعد بعد أن ردّد البيت الشّعري المعروف: الآن إذ علقت مخالبنا به؛ يرجو النجاة ولات حين مناص، «أمّا بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه، فإذا فعل هو ذلك رأينا رأينا، والسّلام»، ولمّا ورد الكتاب على ابن سعد تنفّس الصّعداء وقال: «قد خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية».
#تطوّر الموقف بعد هذه المخاطبات؛ حيث طلب ابن زياد إحكام طوق المحاصرة على الحسين “ع” حتّى بمنعهم من الوصول إلى الماء، وهكذا حتّى ليلة العاشر من المحرّم، وبعد فشل المفاوضات والتّنازلات، وأصبح القتال أمراً حتميّاً، طلب الحسين “ع” حينذاك مقابلة عمر بن سعد، فاستجاب لذلك واجتمعا ليلاً، «فتناجيا طويلاً، ثمّ رجع عمر بن سعد إلى مكانه وكتب إلى عبيد الله بن زياد: أمّا بعد فإنّ الله قد أطفأ النّائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة؛ هذا حسين قد أعطاني عهداً أن يرجع إلى المكان الّذي أتى منه، أو أن يسير إلى ثغر من الثّغور فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضى وللأمة صلاح».
#وبعد أن وصلت نتائج المفاوضات إلى عبيد الله بن زياد تدخلّ شمر بن ذي الجوشن وغيّر القرار، وأقسم لابن زياد بأنّه لو ترك الحسين “ع” يرحل من البلاد الّتي نزل فيها ولم يضع يده في يدك ليكون أولى بالقوّة ولتكونن يا ابن زياد أولى بالضّعف والعجز، ولهذا أخبره بأن لا يعطيه هذه المنزلة البتّة؛ «فإنّها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك»، فاستحسن ابن زياد هذا الرأي المنسجم مع ميوله ومزاجه وأهدافه، وكتب إلى ابن سعد رسالة شديدة اللّهجة، وحذّره بأنّ قيادة الجيش ستنتقل إلى الشّمر ما لم ينفّذ ما يُقال له. [الإرشاد: ج2، ص84ـ89؛ تاريخ الطّبري: ج5، ص410ـ416].
#هذا هو مشهد المفاوضات والتّنازلات الّتي بدأت منذ لقاء الحرّ بن يزيد الرّياحي وحتّى ليلة العاشر من محرّم لسنة: “61هـ” كما اختزله زعيم الطّائفة الاثني عشريّة المفيد، وتركنا جزئيّاته الأخرى الّتي نقلها الطّبري عن أبي مخنف مع التّكهنّات الّتي ذكرها بعضهم في خيار الذّهاب إلى يزيد من عدمه، ومنه نعرف: كذب ومنحوليّة عموم النّصوص الّتي قرّرت: إنّ الحسين بن عليّ “ع” كان قد خرج من المدينة إلى مكّة ومن ثمّ إلى العراق بقصد الشّهادة حصراً، وإنّ ذلك ضمن الخطّة الإلهيّة المعدّة له سلفاً، فالسّبب الحصري لذلك كان رسائل أهل الكوفة له وتمنيتهم إيّاه بالخلافة لا غير، ولهذا قاتل “ع” حتّى آخر لحظة من حياته الكريمة من أجل الحفاظ على سلامته وسلامة أصحابه ووضع خيارات عدّة على طاولة المفاوضات وقدّم التّنازلات، لكنّ أعداء الإنسانيّة وضعوه بين السلّة والذّلة، والذلّة هي مبايعة عبيد الله بن زياد لا يزيد الّذي كان أحد الخيارات المطروحة ولو بشكل غير مباشر، لكنّه اختار السلّة والقتال، فذهب إلى ربّه شهيداً، فليُتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الحسين_المذهبي