#مهما اختلفنا أو اتّفقنا حول ما يُسمى بـ نظريّة الإنسان الكامل، لكنّ ما لا يجوز الخلاف فيه هو: أنّ هذه النّظريّة يجب أن تقوّم وتقدّر وتنحصر في ميدانها النّظري البحت، ولا يمكن لها الانتقال إلى عالم التّطبيق على فلان أو فلانة ما لم تسلك طُرق التّطبيق الحسيّة المعروفة في محلّها، وعلى هذا الأساس أقول: ربّما يستطيع دُعاة هذه النّظريّة توفير براهين عقليّة نظريّة بمصادرات عرفانيّة على مدّعياتها وتمنّياتهم، لكنّهم عاجزون عن تقديم مثل هذه البراهين لانطباقها على سين أو صاد ممّن لا طريق للعقل المجرّد إليهم إلّا بمعونة الحسّ، فكيف والفاصلة بينهم وبين المطبّقين مئات السّنين!!
#في ضوء هذا الأصل الموضوعيّ أقول: يلجأ مقلّدو هذه النّظريّة والسّاعون لتطبيقاتها المذهبيّة إلى رسم صورة غارقة في المثاليّة عن الرّسول أو عن الإمام في أذهانهم وأذهان متابعيهم بسببها، فيدخلون بعدها إلى عالم النّصوص الرّوائيّة المنقولة عنهما، فيُسقطون ما يُريدون، ويصحّحون ما يودّون، ليس على أساس قواعد علم الحديث المتّفق عليها، وإنّما من خلال هذه الصّورة المثاليّة الّتي رسمتها ريشة العرفان لهم وتوقّعاتها الزّائدة عن حدّها حتّى النّخاع، فتجد لغة بينك ما بين الله، وهل يُعقل أن يكون الرّسول أو الإمام هكذا، وهذه من منحولات الأمويّين والعبّاسيّين لتشويه سمعة الرّسول والإمام…إلخ من بيانات إنشائيّة أبعد ما تكون عن العلم ما لم يُقدّم دليل من داخل حيطة علم الحديث والرّجال وما يُضاهيهما عليها وليس من تمحّلات التّطبيقات النّظريّة العرفانيّة الخاطئة، وعليه: فلا يمكن إسقاط النّصوص الرّوائيّة الصّحيحة بمقاييس علم الحديث من خلال هذه النظريّة واشتراطاتها؛ فهذان مساران مختلفان تماماً، فتدبّر وافهم.
#ولكي نقرّب الفكرة إلى الأذهان نضرب مثالاً بسيطاً: روى البخاري المتوفّى سنة: “256هـ” في باب حمل عنوان: “مباشرة الحائض”، بإسناده الصّحيح عندهم، عن عائشة أنّها قال: «كنت أغتسل أنا والنّبي “ص” من إناءٍ واحد كلانا جُنب، وكان يأمرني، فأتّزر، فيباشرني وأنا حائض»، وقالت أيضاً: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله “ص” أن يباشرها أمرها أن تتّزر في فور حيضتها، ثمّ يباشرها، قالت: وأيكم يملك إربه [ذكره]، كما كان النّبي “ص” يملك إربه». [صحيح البخاري: ج1، ص67، ط طوق النّجاة؛ فتح الباري: ج2، ص93ـ94، تحقيق: الأرنؤوط].
#ومن الواضح: أنّ معنى المباشرة هنا ـ بقرينة أمره إيّاها بالاتّزار ـ هي الوصول إلى المبتغى من خلال الالتصاق البدني والتقاء البَشَرتين، لا الجنس العميق الّذي نهت عنه الآية القائلة: “ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النّساء في المحيض ولا تقربوهن حتّى يطهرن…” [سورة البقرة: 222]، والّتي كان سبب نزولها ما رواه أحمد المتوفّى سنة: “241هـ” وغيره بالإسناد الصّحيح عندهم عن أنس إنّه قال: «إنّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوهنّ، ولم يجامعوهنّ في البيوت، فسأل أصحاب النّبي “ص”، فأنزل الله عزّ وجل: يسألونك عن المحيض… فقال رسول الله “ص”: اصنعوا كلّ شيء إلّا النّكاح”…». [مسند أحمد: ج19، ص365؛ صحيح مسلم: ج2، ص71، ط دار التّأصيل].
#وهذا الحكم ـ أعني جواز الإشباع الجنسي من الحائض ما دون الفرج ـ متّفق عليه بين معظم علماء الإسلام، والنّصوص الواردة عن أهل البيت تقرّر ذلك أيضاً وتفسّر معنى المباشرة، والرّسائل العمليّة لفقهاء ومراجع الطّائفة تفتي بذلك، واستقذار المتديّن المعاصر له بأيّ بيان من البيانات لا يوجب أنّ على الرّسول الّذي كان يعيش قبل مئات السّنين أن ينصاع لرغبة هذا المتديّن وتصوّراته المعاصرة، ولا يجب عليه أيضاً أن يقرأ نظريّة الإنسان الكامل المولودة بعد قرون من لحظته ويتصرّف وفق مقاساتها ودقّيّاتها، ومن يُريد أن يُسقط النّصوص الصّحيحة والمتّفق عليها بمثل هذه البيانات والتّمحلّات فسوف يبني لنفسه عالماً دينيّاً مذهبيّاً ورديّاً كاذباً يخالف أبسط فتاوى رسالته العمليّة ومرتكزاتها، ويضحى وصف الرّوايات بالإساءة لمقام النبوّة والإمامة كوماً بقرش، فليُتأمّل كثيراً كثيراً ولتُخفّف التّوقعات، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر
#الرّسول_المذهبي