إذا أردنا الانسياق مع سياقات فلسفة السّياسة: فإنّ تحديد شكل الحكم المفترض لأيّ بلد وما يتبع ذلك من كتابة دستوره ووحدة قواه أو تعدّدها…إلخ إنّما يعود بالدّرجة الأساس إلى طبيعة النّظرة الفلسفيّة الّتي يختارها المعنيّون بهذا البلد للإنسان المُراد قيادته وإدارته، وطبيعة مصادرها المتّبعة.
وعليه: فإذا اعتمدوا النصّ القرآنيّ في تحديد وتشخيص طبيعة الإنسان فإنّ الصّيغة النّاجحة والمفترضة لإدارة بلادهم لن تكون غير صيغة النّظام الدّكتاتوري القمعي الاستبدادي الّذي لا يمتلك أيّ شكل من أشكال الأنظمة الدُيموقراطيّة المعاصرة؛ وذلك لأنّ الإنسان القرآني بطبيعته: جهول، جزوع، كفور، عجول، ظلوم، هلوع، كنود، خاسر، ضعيف، يئوس، قنوط، قتور، مجادل… ومثل هذا الإنسان المنفلت لا طريق لضبط عقاله غير الدّكتاتوريّة والاستبداد الدّيني والمذهبي المعروف، والّذي تتمظهر صيغه إمّا عن طريق التّعيين والنصّ المباشر أو عمّا يُسمّى بشورى أهل الحلّ والعقد، وهذه الرّؤية القرآنية في تقييم الطّبع الإنساني تتوافق مع بعض اتّجاهات االفلسفة الحديثة أيضاً.
أمّا إذا ذهبنا إلى غير ذلك، واخترنا أنّ النّوع الإنسان بطبعه الأوّلي ـ ولا أقل شريحة واسعة معتدّ بها منه ـ ليس جهولاً ولا جزوعاً ولا كفوراً ولا عجولاً ولا ظلوماً ولا هلوعاً ولا كنوداً ولا خاسراً ولا ضعيفاً ولا يئوساً ولا قنوطاً ولا قتوراً ولا مجادلاً…إلخ، فسيكون شكل الحكم الممكن لقيادته وإدارته مختلفًا تماماً بطبيعة الحال.
في ضوء هذا التّفريق المنهجي عليك أن تعرف: أنّ نجاح أيّ تجربة ديموقراطيّة أو دكتاتوريّة مستنسخة لإدارة بلدك مرهون بالدّرجة الأساس بمعرفة طبيعة الإنسان المراد حكمه وطبيعة المصادر الّتي تلجأ إليها في تكوين هذا الأساس؛ إذ من المحال: أن تنجح تجربة ديموقراطيّة حقيقيّة مستوردة في بلد يؤمن بالإسلام والقرآن والأئمّة ديناً ومعتقداً ومذهباً؛ لأنّ أساسات هذه التّجربة وصيغتها المفترضة مصمّمة بنحو لا ينسجم مع هذا الدّين والمذهب ومقولاتهما إلّا بنحو من التّحوير الّذي يفسد أوّلها وآخرها، إمّا بتحوير الصّيغة الدّيموقراطيّة نفسها، وإمّا بتحوير الإسلام والمذهب لمواءمتهما مع الصّيغة الدّيموقراطيّة، والجميع كما ترى، فتأمّل كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.