4ـ الفلسفةُ ودورها في الاجتهادِ بين المثبتِ والنافي

30 سبتمبر 2016
1463
ميثاق العسر

«وأعْظَمُ مِن هذا مِحْنَةً، وأكبرُ مصيبةً، وأوجَبُ على مرتكِبِه إثماً، ما يتداوَلُه كثيرٌ من المُتسمّينَ بالعلمِ من “أهلِ بلادِ العجم”، وما ناسَبَها من غيرهم في هذا الزمان؛ حيث يصرِفُون عمرَهُم ويَقْضون دهرَهُم على تحصيل: علوم الحكمة، كعلمِ المنطقِ والفلسفة وغيرهما، ممّا يَحْرُمُ لذاتِهِ أو لمنافاتِه للواجب، على وجهٍ لو صَرَفوا جزءاً منه على تحصيلِ العلمِ […]


«وأعْظَمُ مِن هذا مِحْنَةً، وأكبرُ مصيبةً، وأوجَبُ على مرتكِبِه إثماً، ما يتداوَلُه كثيرٌ من المُتسمّينَ بالعلمِ من “أهلِ بلادِ العجم”، وما ناسَبَها من غيرهم في هذا الزمان؛ حيث يصرِفُون عمرَهُم ويَقْضون دهرَهُم على تحصيل: علوم الحكمة، كعلمِ المنطقِ والفلسفة وغيرهما، ممّا يَحْرُمُ لذاتِهِ أو لمنافاتِه للواجب، على وجهٍ لو صَرَفوا جزءاً منه على تحصيلِ العلمِ الديني الذي يَسألُهُمُ اللهُ تعالى عنه يومَ القيامةِ سؤالًا حثيثاً، ويُناقِشُهُم على التفريط فيه نِقاشاً عظيماً، لحَصّلوا ما يجِبُ عليهم من علمِ الدين. ثمّ هم مع ذلك يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، بل يَزْعُمونَ أنّ ما هم فيه أعظمُ فضيلةً وأتَمّ نفعاً، وذلك عينُ الخِذلانِ من الله سبحانه والبُعدِ عنه، بل الانسلاخُ من الدين رأساً: أنْ يُحْيِيَ من يَزْعُمُ أنّه مِن أتْباع سيّد المرسلين محمّدٍ وآله الطاهرين، دينَ أرسطو ومَنْ شاكَلَه من الحكماء، ويُهْمِلَ الدينَ الذي دانَ اللهُ به أهلَ الأرضِ والسماء، نعوذ بالله من هذه الغَفلةِ ونَسألُه العفوَ والرحمةَ، ‌فاسْتَيْقِظُوا أيّها الإخوانُ من رَقْدَتِكُم، وأفِيقُوا من سَكْرَتِكُم… ها أنا قد أدّيْتُ الأمانةَ حَسبَما أُمِرتُ، و ما أرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلٰاحَ مَا اسْتَطَعْتُ».
ربّما لا تعجب أن يصدر هذا التمييز المنهجيّ المبكّر من فقيه يعيش في أواسط القرن العشرين، لكنّك قد تستغرب صدوره من فقيه شيعيّ يعيش في أواسط القرن السادس عشر، يضع أصبعه على مكمن المشكلة وموضع الداء، أجل؛ هو الشهيد الثاني (1545م)، الفقيه العربيّ الكبير، يُظهر لنا وجعه مّمن وصفهم بالمُتسمّين بالعلم من بلاد أهل العجم حينذاك، وهو يشير إلى (بعض) علماء الدولة الصفويّة آنذاك… .
لستُ ضدّ الفلسفة، ولا من المنكرين لها، بل قضيت سنوات طويلة في دراستها، والانشغال في فكّ رموزها، لكنّي أردت من الاطلالة بهذا النصّ الصادم مشاركة شيخنا الشهيد في وجعه وآلامه؛ إذ لم ينج هذا الفقيه من النهاية المحزنة التي تنبّأ بها؛ فقد اُقحمت (تفاصيل) البحث الفلسفي في علم أصول الفقه والفقه نفسه، وأُجبر الطالب على صرف سنوات من عمره في سبيل فهم نصوص الأصوليين الذين استهوتهم الفلسفة اليونانيّة في بدايات تكوينهم العلمي، ووضعت مناهج دراسيّة لذلك، لكن ما هو الدليل الذي يقوده دعاة دراسة ما يُسمّى بالفلسفة الإسلاميّة لتبرير ضرورتها؟
يبدو: إن الذين يدعون طالب الاجتهاد إلى دراسة الفلسفة والتعمّق فيها يلحظون التضخّم الكبير الحاصل في علم أصول الفقه، وتفنّن بعض الأصوليين والفقهاء في توظيف القضايا الفلسفية في استدلالاتهم، فيعترضون حينذاك: كيف يمكن لطالب الاجتهاد الذي لم يدرس الفلسفة ولم يتدرّب فيها: أن يعرف استدلالات المحقّق الخراساني في كفاية الأصول، أو تلميذه الأصفهاني في نهاية الدراية، أو زميله العراقي في: بدائع الأفكار؟! وحيث إن كثيراً من بحوث الخارج في الحوزات العلميّة قائمة على أساس تراث هؤلاء الأعلام، فعلى طالب الاجتهاد أن يدرس: المنظومة، وبداية الحكمة، ونهاية الحكمة، والأسفار…؛ لكي يتمكّن من فهم تلك البحوث!!!
وفي مقام التعليق على هذا الكلام أقول:
إن الإقحام الخاطئ لتفاصيل البحث الفلسفي في البحث الفقهي والأصولي لا يحتّم على طالب الاجتهاد أن ينساق مع هذا الإقحام، ويرضخ لنصوصه ومفرداته، ويقضي سنوات عمره في فهم مقفّلاته، ويتنقّل من هذا الأستاذ إلى ذاك الفاضل في فكّ رموزه وعباراته، لكن هذا لا يعني دعوة طلّاب الحوزة الجُدد، مّمن يسعون حثيثاً للاجتهاد، إلى ترك دراسة الفلسفة، والابتعاد عنها، بل لا شكّ في أن: الفلسفة (بمقدار ما) ضروريّة لطالب الاجتهاد، بل لكلّ من يريد أن يدعّ الفقاهة والمرجعيّة، ولكن بشرطها وشروطها.
إيضاح ذلك: لا أشكّ في ضرورة الفلسفة بعنوانها العامّ في فتح آفاق التفكير الإنساني، ولا أشكّ أيضاً في ضرورتها بعنوانها العامّ أيضاً لمن يريد الدخول في سياقات المعرفة المعاصرة، فهذا الأمر من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان، لكن يجب علينا التسليم بأن الاغراق في دراسة الفلسفة (اليونانيّة) [مهما حاولنا أسلمتها] وتدريسها ظاهرة يجب تحجيمها في حوزاتنا العلميّة لمن يريد الوصول إلى الاجتهاد، وتحجيمها في قناعتي يمرّ من خلال دعوة المختصّين بالدرس الفلسفي، وليس شرّاح النصوص، إلى: كتابة منهج فلسفي مختصر، يحمل في طيّاته: القواعد الكليّة الفلسفيّة التي تنفع طالب الاجتهاد الفقهي والديني، في مسيرته البحثيّة، منهج مقارن يحمل: مفردات المعرفة، ومفردات الوجود، وفلسفة الأخلاق، بالإضافة إلى شيء من الفلسفات المضافة، وبهذا نتخلّص من مشكلتين:
الأولى: سطوة فلسفة صدر المتألهين على الحوزة العلميّة بعد جهود السبزواري والطباطبائي وتلاميذه، ونفتح المجال أمام: آراء ابن رشد والكندي وابن سينا والسُهروردي… وغيرهم أيضاً من روّاد الفلسفات المعاصرة.
الثانية: القضاء على ظاهرة تضخّم الدروس الفلسفيّة في حوزة النجف الأشرف بعناوينها المختلفة، من بداية الحكمة ونهايتها، وأسفار صدر المتألهين وشواهده، وإشارات الشيخ الرئيس وشفائه… فضلاً عن دروس العرفان؛ وتحويل جهود أساتذتها وطلّابها إلى ما ينفع الحوزة العلميّة في سبيل تطوير جوهرها وأدائها؛ فالفلسفة كما أوضحنا: ضرورة معرفيّة، ينبغي أن يتسلّح بها طالب الاجتهاد وهو يتّجه صوب هذا الهدف السامي، ولكن ضرورتها لا تتجاوز إتقان القواعد الفلسفيّة الكليّة، وليس التفاصيل الجزئيّة التي تضيّع عمر الطالب ولا تنفعه كما يقرّ بذلك أساتذة الفنّ أنفسهم.
وفي سياق المشكلة الثانية، ولكي لا ينزعج منّي بعض الأخوة الأصدقاء والزملاء في حوزة النجف، يجب عليّ أن أوضّح نقطتين:
1ـ إن تدريس هذه الدروس حقّ مشروع لكلّ أستاذ ثبت له هذا الوصف بحقّ، ولكن على هذا الأستاذ أن يوضح لطّلابه حقيقة مرّة تقرّر التالي: إن ما تدرسونه لا يوفّر لكم مستقبلاً في الاجتهاد الحوزويّ، وإذا ما أردتم الاجتهاد الفقهي بل وحتّى الديني، فعليكم أن تأخذوا لباب هذه البحوث وتتركوا القشور، لكن آسفي إن مشكلة الأتكيتات الحوزويّة الإثباتيّة تمنع ذلك.
2ـ إن ظاهرة ضياع أوقات طلّاب الحوزة في تفاصيل الدروس الفلسفيّة لا تمثّل إلا نسبة ضئيلة جدّاً من أصل المشكلة، وتتحمّل المسؤوليّة الأكبر: تلك الدروس الفقهيّة والأصوليّة التي تدور في حلقة مفرغة لسنوات طويلة، من دون أن تمنح الطالب رؤية اجتهاديّة حقيقيّة، وسنطلّ على هذا الموضوع في الحلقات القادمة.
وأخيراً: أضع بين يديّ الأخوة مقطعاً صوتيّاً من الدروس الفلسفيّة التي أضعنا أعمارنا في دراستها والاستماع إليها، وهو بصوت الشيخ جوادي الآملي، بلهجة عربيّة آمليّة؛ وأرجو من السادة المستمعين أن يجيبوني: هل تستحقّ أمثال هذه البحوث أن نقضي أعمارنا فيها؟!


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...