روى شيخ الطّائفة الاثني عشريّة الطّوسي المتوفّى سنة: “460هـ” أصل التحفّظات الشّديدة والبالغة للحسن بن عليّ على سياسة والده وتحرّكاته وكذا جواب عليّ عليها أيضاً، عن أستاذه المفيد المتوفّى سنة: “413هـ” بإسناده عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب رغم وجود إضافات مذهبيّة عميقة لا نراها في الرّواية بالإسناد نفسه في المصادر المتقدّمة، وقد نصّ عليّ في إجابة آخر اعتراض سجّله الحسن عليه قائلاً:
وأمّا قولك اعتزل العراق ودع طلحة والزّبير، فو الله ما كنت لأكون كالضّبع تنتظر حتّى يدخل عليها طالبها، فيضع الحبل في رجلها؛ حتّى يقطع عرقوبها، ثمّ يخرجها فيمزّقها إرباً إرباً، ولكن أباك يا بني يضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، وبالسّامع المطيع العاصي المخالف أبداً، حتّى يأتي عليّ يومي، فو الله ما زال أبوك مدفوعاً عن حقّه، مستأثراً عليه، منذ قبض الله نبيه “ص” حتّى يوم النّاس هذا. فكان طارق بن شهاب أيّ وقت حدّث بهذا الحديث بكى». [بحار الأنوار نقلاً عن الأمالي: ج32، ص103؛ أمالي الطّوسي: ص52ـ53، ط البعثة].
لكنّا حينما نقلّب نهج البلاغة لتلميذ المفيد، أعني الشّريف الرّضي المتوفّى سنة: “406هـ”، نلاحظ انتقائيّة مخلّة جدّاً في مقام التّمويه على القارئ في هذا المكان؛ وذلك بعدم ذكره تصريحاً أو تلميحاً صاحب هذه الإشارة وهو الحسن بن عليّ كما قرّرت ذلك صحاح الأخبار، بل عمد إلى بتر الجزء الأخير من جواب عليّ له، ووضعه تحت عنوان عام، واقتصر في نقله على الإضافات المذهبيّة والبلاغيّة قائلاً: «ومن كلام له “ع” لمّا أشير عليه بألّا يتبع طلحة والزّبير، ولا يرصد لهما القتال: “والله لا أكون كالضّبع تنام على طول الّلدم…إلخ» [ص41، ط دار المعرفة]؛ مع أنّ المفترض به أن يقول حفظاً للأمانة العلميّة: ومن كلام له لمّا أشار عليه الحسن…إلخ، لا سيّما وهي المنقولة عن أستاذه المفيد فضلاً عن إجماع بقيّة المصادر المتقدّمة الّتي نقلتها.
ومن الواضح: أنّ اقتصار صاحب نهج البلاغة على هذا النّقل وبهذه الألفاظ بالخصوص يؤكّد إيمانه بأصل الحادثة الّتي رويت بأسانيد صحيحة في كلمات المتقدّمين عليه، والمرتبطة ـ كما نوّهنا ـ بالتحفّظات العميقة للحسن على سياسة والده والّتي أنتجت خوض ثلاث حروب طاحنة بين المسلمين أنفسهم، وبهذه الطّريقة الذكيّة مذهبيّاً جعل ما بين القارئ العاطفي والحقيقة سدّاً منيعاً لا يستطيع من خلاله: لا معرفة الأسباب الحقيقيّة الّتي دعت لصدور مثل هذا الكلام، ولا التّصديق بها حينما يُرشده أحد إليها، لا سيّما بعد دوام الطّرق المذهبي الطّائفيّ العميق على رؤوس الجماهير الشّيعيّة الاثني عشريّة منذ قرون عدّة، فتدبّر كثيراً كثيراً، والله من وراء القصد.
