نصوص فقهيّة قاسية، وآثارها النفسيّة والاجتماعيّة

8 نوفمبر 2015
1629
ميثاق العسر

كيف يمكن لنا الخلاص من التربية الاجتماعيّة الخاطئة التي ولّدتها نصوص بعض الفقهاء الشيعة وفتاواهم تجاه: أهل السنّة والجماعة، وما هو السبيل لتقديم قراءة صحيحة للروايات التي صدرت من أهل البيت (ع) حول هذا الموضوع؟


ليس للفقهاء ذنبٌ في قسوة (بعض) نصوصهم وحِدّتها، ولا في رياضيّة منهجهم ودقّته؛ فهم مأسورون لقراءات تجريديّة، لنصوص روائيّة، منحوها إطلاقيّة المطلق، وكأن المتحدّث فيها ـ وهو الإمام (ع) ـ يتحدّث في فضاء اجتماعيّ سرمديّ صامت، ليس في من يحاكيه: صالح وطالح، ظالم ومظلوم، غنيّ وفقير، عالم وجاهل، إفراطيّ ومفرّط…، أجل؛ حديث الفقهاء وأحكامهم ليست من جراب النورة كما يقال، بل هو وليد طبيعي لقراءة تجريديّة؛ قراءةٌ تسعى إلى فهم النصوص الروائيّة كمُثل نوريّة معلّقة، ليس لها علاقها بواقعها الاجتماعي الذي صدرت فيه، منفصلة عن محيطها وسياقها وموطنها، وعن جميع مبرّرات ودواعي صدورها.
ولعل محطّة الفقيه يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق من أكثر المحطّات جدلاً وإثارة في هذا المسار؛ دعونا نتوقّف معه على أقسى نصّ فقهي له في وصف أهل السنّة والجماعة، والذي انتقد فيه بشدّة موقف الشهيد الثاني في قضيّة فقهيّة دعا فيها الأخير إلى ضرورة الاحتياط بالخروج عن أقوال العامّة ومذاهبهم، فقال:
(ثمّ العجب منه (قدّس سرّه) أيضاً [ويعني به الشهيد الثاني صاحب كتاب المسالك] في اعتباره الاحتياط بالخروج عن أقوال العامّة ومذاهبهم في هذه المسألة، وأيّ وجه لهذا الاحتياط مع: استفاضة الأخبار بالأخذ بخلافهم، وإن الرُشد في خلافهم، ورمي الأخبار الموافقة لهم، وأنّهم ‌ليسوا من الحنفيّة على شي‌ء، وإنّه لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة، وإنّهم ليسوا إلا كالجُدّر المنصوبة، وأن لا فرق بين صلاتهم وزنائهم، حتى ورد أنّه إذا لم يكن في البلد فقيه تستفتيه في الحكم، فاستفت قاضي العامّة، وخذ بخلافه. وما أدّعاه من إسلامهم وإن ذهب هو إليه [أي الشهيد الثاني]، وتبعه جمع عليه، إلا أن المشهور بين متقدّمي أصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) هو: الكفر، كما استفاضت به أخبار أهل الذكر (ع)، وأوضحناه بما لا مزيد عليه…).‌
هذا النصّ يمثّل قمّة القسوة الفقهيّة التي أأمل أن لا نربّي أبنائنا عليها، واتمنّى أيضاً على حوزاتنا العلميّة أن تحدّد موقفها من أمثال هذه النصوص، لا من خلال التهريج على من يتّكأ عليها، ولا من خلال الاعتماد على التقيّة والعناوين الثانويّة لتبريرها، وإنّما من خلال: وضع النصوص الروائيّة ـ مهما كانت ـ التي ولّدتها في دائرتها الزمانيّة والمكانيّة الخاصّة، التي لا ينبغي تسريتها إلى كلّ الأزمان؛ فهذا المنطق في التعامل مع باقي المذاهب والأديان سيجعل منّا: أقليّة منبوذة من كلّ الأطراف، حتّى وإن أقنعنا أنفسنا بألف أطروحة للخلاص والنجاة.
وقال صاحب الحدائق في الدرّر النجفيّة (1186هـ):
«استفاضت الأخبار… بكفر المخالفين ونصبهم وشركهم، وأن الكلب واليهودي خير منهم، وهذا ممّا لا يجامع الإسلام البتة، فضلاً عن العدالة. واستفاضت أيضاً بأنهم ليسوا من الحنفيّة على شي‌ء، وأنّهم ليسوا إلّا مثل الجدر المنصوبة، وأنّه لم يبق في أيديهم إلّا استقبال القبلة. واستفاضت بعرض الأخبار عند الاختلاف على مذهبهم، والأخذ بخلافه، وأمثال ذلك ممّا يدل على خروجهم عن: الملّة المحمديّة والشريعة النبويّة بالكلّيّة، والحكم بعدالتهم لا يجامع هذه الأخبار البتة».
وقال السيّد علي صاحب الرياض (1231هـ):
«مع أنّ المعتبرة مستفيضة، بل كادت تكون متواترة، بأنّه ليس في المخالف خير أصلًا، وصلاح بالمرّة، وإن اشتغلوا بالعبادات الموظّفة، وراعوا ‌الأُمور الّلازمة، فقد ورد عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) أنّهم ليسوا إلّا كالجُدر المنصوبة، وأنّ عباداتهم بأسرها فاسدة».
وقال السیّد الخوئي (1413هـ):
«ومّما ينبغي أن ينبه عليه في المقام هو: أن الصلاة معهم [أي المخالفين] ليست كالصلاة خلف الإمام‌ العادل، وإنّما هي على ما يستفاد من الروايات (صورة صلاة) يحسبها العامّة صلاة، وائتماماً بهم، ومن هنا لم يرد في الروايات عنوان الاقتداء بهم، بل ورد عنوان: (الصلاة معهم)، فهو يدخل الصلاة معهم، ويؤذّن ويقيم، ويقرأ لنفسه على نحو لا يسمع همسه فضلاً عن صوته، ولا دلالة في شي‌ء من الروايات على أنّها صلاة حقيقة، وقد ورد في بعضها: ما همّ عنده (ع) إلّا بمنزلة الجُدر، إذن لا تكون الصلاة معهم كالصلاة خلف الإمام العادل، بل إنّما هي صورة الائتمام لتحسبوها كذلك، من دون أن يسقط القراءة والإقامة ولا غيرهما؛ لأنهم ليسوا إلّا كالجُدر».
وقال السيّد السيستاني في إجابة سؤال حول جواز الصلاة خلف إمام من أهل السنّة والجماعة:
«تجوز الصلاة خلفهم، ولكن لا بدّ للمأموم أن يقرأ لنفسه إخفاتاً إن أمكنه، وإلا يقرأ في نفسه، ويجوز له التكتّف إذا اقتضته التقية، كما يجوز له السجود على ما لا يصح السجود عليه عندنا؛ إذا لم يتيسّر في مكانه ما يصحّ السجود عليه كالبارية، فإن تيسر وجب اختياره».
وقال السيّد سعيد الحكيم في مصباح المنهاج:
«نعم، في خبر زرارة أو حسنه، عن أبي جعفر (ع): (قال: لا بأس بأن تصلّ خلف الناصب، ولا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه؛ فإن قراءته يجزيك إذا سمعتها)، وظاهره إجزاء قراءة الإمام بنفسها، لا لوجوب الإنصات. لكنّه مخالف للنصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة في: عدم الاعتداد بقراءتهم، وأنهم كالجُدر، فلا بدّ من تأويله أو حمله على التقية في الفتوى أو نحوهما».
وفي قبال هذا التوجّه نلحظ فقاهة أعمق وأدقّ يتقدّمها الشهيد الأوّل؛ حيث قال في كتابه الذكرى (786هـ):
«يستحب حضور جماعة أهل الخلاف استحباباً مؤكداً، قال الصادق عليه السّلام: «من صلى معهم في الصفّ الأول، كان كمن صلى خلف رسول الله (ص) في الصف الأول. ‌وعنه (ع): يُحسب لمن لا يتقدى مثل من يقتدى، ويستوي في ذلك من صلى الفرض ومن لم يصله. قال الصادق (ع): من صلى في مسجده ثم أتى مسجدهم فصلى معهم خرج بحسناتهم. ‌وقال (ع): إذا صليت معهم غفر لك بعدد من خالفك. وروى زيد الشحّام عنه (ع) أنّه قال: يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، وصلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا، أما إنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم الله جعفراً؛ ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، فعل الله بجعفر؛ ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه».
وأين هذه الفقاهة من فقاهة كونهم كالجُدر المنصوبة، ولا فرق بين صلاتهم وزنائهم؟!


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...