القياس وحرمته الاجتهاديّة

5 مايو 2013
1832
ميثاق العسر

ما هو سبب تحريم استخدام القياس في مدرسة أهل البيت (ع)؟


ثمة خلاف قديم بين علماء الأصول من المذاهب الإسلامية في اعتبار القياس ومكانته في منظومة الاستنباط الإسلامية، وقد أكثروا من تداول البحث والنقض والإبرام فيه بحيث زاد ذلك عن الحدّ المتعارف؛ فأفرط البعض من اتباع المذهب السني ـ كأبي حنيفة ومالك ـ في حجيته، فنُسب إلى بعضهم تقديم القياس على السنة النبوية في بعض الأحيان؛ وفرّط آخرون ـ كأصحاب المذهب الظاهري ـ في عدم حجيته وقررّوا: عدم حجية كل ما يسمى قياساً؛ ونُسب إلى ابن حنبل: تقديم الرواية الضعيفة وفتوى الصحابي على القياس(1).
وفي هذا السياق ذهب علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى إنكار حجية القياس، متابعين في ذلك نصوص أئمتهم الأطهار التي نصّت على ضرورة الابتعاد عن استخدام أنواع القياسات الوهمية وغير العلمية؛ بحيث أصبحت وجهة نظرهم هذه أشهر من نارٍ على علم.
والمهم في هذا الموضوع هو: تحديد محل النزاع فيه قبل إبداء أي وجهة نظر يمكن لها أن تساهم في فهم نصوصه ومرتكزاته فنقول:
للقياس أربعة أركان هي عبارة عن: الأصل، الفرع، العلة، الحكم. والعلّة هي: الجامع المشترك بين الأصل والفرع والذي يبرّر عملية سريان الحكم إلى الفرع، فهي في الواقع روح القياس وملاكه الأصلي، وعليه:
أ ـ إذا استنبطت هذه العلّة من الكتاب أو السنة أو الإجماع فلا خلاف في جريان الحكم من الأصل إلى الفرع إلا في بعض الاختلافات اللفظية.
ب ـ إذا ثبتت العلّة من خلال مفهوم الأولويّة فلا خلاف في جريانه أيضاً رغم وجود الخلاف في تسميته، فهو عند البعض (قياس الأولوية) وعند بعض ( فحوى الخطاب) وعند آخرون (لحن الخطاب)… كما في حرمة ضرب الوالدين المستفادة من قوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا… )(2).
ج ـ في حالة ما إذا حصل التنصيص من قبل الشارع على علّة الحكم أو مناطه وقام المستنبط بحذف الأوصاف غير الدخيلة في حقيقة هذه العلّة والمناط فألحقها بمتعلّق آخر… ففي مثل هذه الحالة أيضاً لا خلاف في جريان هذا اللون من القياس، والذي يعبّر عنه الأعلام إمّا (تنقيح المناط) أو (إلغاء الخصوصيّة)، نعم وقع الخلاف في التسميّة الأولى أيضاً؛ فأسماه البعض تعميماً للعلّة ووصفه آخرون بالقياس.
د ـ في حالة ما إذا اعتمد المجتهد في استخراج العلّة على انسجام وتلائم الحكم مع الوصف فقط؛ فألحق جرّاء ذلك الفرع بحكم الأصل، فهذه الحالة هي التي وقع الخلاف فيها بين الأصوليين من السنة والشيعة، ولكل منهما أدلّته الخاصة في هذا الموضوع، ولسنا بصدد التعرّض لها.
وبعد أن قدّمنا هذه المقدمة الضرورية نرجع إلى الإثارة التي تضمّنها سؤالكم؛ فنقول: أن إطلاق وصف منكر الضروري على من يتبنى جريان القياس في الحالة الأخيرة في عصر الغيبة مرهون بتحديد ماهية الضروري المذهبي في فقهنا الشيعي وتحديد مرتكز حرمة القياس الذي ذهبت نحوه النصوص، فربما يقال: أن القول بحرمة القياس مطلقاً (بالمعنى الأخير طبعاً) حتى في زمن الغيبة أمرٌ لا تقرّه ظروف النصوص التي أطلقت هذا الحكم، بل هي مختصة بالأقيسة المرتكزة على الأوهام والظنون الناشئة من الأذواق الشخصية المحضة مع وضوح الدليل، أمّا في عصر الغيبة أو الهدنة كما تسميه النصوص، فأنى لنا في بعض المسائل هذا الوضوح، مع مشاكل حذف الأسانيد وتقطيع المتون وحذف القرائن وغيابها… وإلى العشرات من المشاكل الأخرى، فحال القياس حينئذ حال بعض الأدوات الظنيّة الأخرى كالعمل بخبر الواحد.
ومن منطلق الإثارة التي طرحتموها نتمنى أن تُقدّم دراسات بحثية في عموم هذه الأصول الممنوعة في واقعنا الشيعي، من قبيل سد الذرائع والاستحسان وغير ذلك من الأمور التي اشتهر بيننا عدم جواز العمل بها، دراساتٌ تقرأ هذه الأصول في سياقها الطبيعي الذي ولدت فيه من دون أن تحذف القرائن التي آلت إلى منعها، وبأفق مستنير يبتعد كل البعد عن المقولات غير العلمية.
ـــــــــــــــ
( ) البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي: ج5، ص 34.
( ) سورة الإسراء، الآية: 23.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...