عندما نقرأ النصوص الروائية التي وردت عن طريق أهل البيت عليهم السلام نلاحظ تركيزاً منقطع النظير على مسألة الزواج المنقطع (=المتعة)؛ حيث شبهّت بعض هذه النصوص درجة المتمتع بدرجة الحسين عليه السلام، بل جاء عن الصادق عليه السلام في إجابة من سأله عن المتعة القول: (إِنِّي لَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ خَلَّةٌ مِنْ خِلَالِ رَسُولِ اللَّهِ (ص) لَمْ يَقْضِهَا)، لكن المجتمع الإسلامي عموماً وحتى المجتمعات الشيعية أيضاً لم تهضم إباحة هذه المسألة فضلاً عن استحبابها، فما هي قراءة فقهاء الشيعة لهذه النصوص، وكيف يفسّرون هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق؟
لا شك أن الشارع المقدّس سوّغ المتعة وأشار إليها في صريح القرآن الكريم (=فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، وقد كانت مجازة لا مشكلة فيها في عصر النبي الأكرم (ص)، وقد حصل المنع لها من قبل عمر بن الخطاب. من هنا وقع الكلام بين الأعلام حول حقيقة تشريع المتعة من الأساس، فهل هو تشريع إلهي ثابت على غرار تشريع الصلاة والصوم والحج وأصل وجوب الزكاة، أم هو تشريع طارئ استثنائي متغيّر بتغيّر الظروف والأحوال، وهل يملك الحاكم الشرعي صلاحية حجبه ومنعه نظراً لتقديراته الاجتماعية واحترازاته الموضوعية؟
إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة المنهجية تبدأ من خلال ما يمكن استظهاره من النصوص الروائية الواردة عن الرسول والأئمة عليهم السلام في هذا المجال، وهل يمكن أن يكوّن استظهاراً عام من مجموعها أم لا؟
1ـ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الْمُتْعَةِ؟
فَقَالَ: «نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ».
2ـ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ عليه السلام يَقُولُ: لَوْ لَامَا سَبَقَنِي بِهِ بُنَيَّ الْخَطَّابِ، مَا زَنى إِلَّا شَقِيٌّ ».
3ـ عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ:
جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ؟
فَقَالَ: «أَحَلَّهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَ عَلى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله، فَهِيَ حَلَالٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
فَقَالَ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، مِثْلُكَ يَقُولُ هذَا، وَ قَدْ حَرَّمَهَا عُمَرُ وَ نَهى عَنْهَا؟
فَقَالَ: «وَ إِنْ كَانَ فَعَلَ».
قَالَ: إِنِّي أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ ذلِكَ أَنْ تُحِلَّ شَيْئاً حَرَّمَهُ عُمَرُ.
قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «فَأَنْتَ عَلى قَوْلِ صَاحِبِكَ، وَأَنَا عَلى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله، فَهَلُم أُلَاعِنْكَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ».
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَالَ: يَسُرُّكَ أَنَّ نِسَاءَكَ وَبَنَاتِكَ وَأَخَوَاتِكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ يَفْعَلْنَ؟ قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام حِينَ ذَكَرَ نِسَاءَهُ وَ بَنَاتِ عَمِّهِ.
4ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيٍّ السَّائِيِّ، قَالَ:
قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي كُنْتُ أَتَزَوَّجُ الْمُتْعَةَ، فَكَرِهْتُهَا، وَتَشَأَّمْتُ بِهَا، فَأَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْداً بَيْنَ الرُّكْنِ وَ الْمَقَامِ، وَجَعَلْتُ عَلَيَّ فِي ذلِكَ نَذْراً وَصِيَاماً أَلَّا أَتَزَوَّجَهَا، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ ذلِكَ شَقَّ عَلَيَّ، وَنَدِمْتُ عَلى يَمِينِي، وَلَمْ يَكُنْ بِيَدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا أَتَزَوَّجُ فِي الْعَلَانِيَةِ.
قَالَ: فَقَالَ لِي: «عَاهَدْتَ اللَّهَ أَنْ لَا تُطِيعَهُ، وَ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ تُطِعْهُ لَتَعْصِيَنَّهُ».
وفي قبال هذه الطائفة من الروايات نجد روايات أخرى عقد لها الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة باباً اسماه: باب كراهة المتعة مع الغنى عنها واستلزامها الشنعة أو فساد النساء، من قبيل:
1ـ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ: مَا أَنْتَ وَ ذَاكَ قَدْ أَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْهَا…
2ـ وَعَنْهُ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعاً عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ ع عَنِ الْمُتْعَةِ؟
فَقَالَ: هِيَ حَلَالٌ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لِمَنْ لَمْ يُغْنِهِ اللَّهُ بِالتَّزْوِيجِ فَلْيَسْتَعْفِفْ بِالْمُتْعَةِ، فَإِنِ اسْتَغْنَى عَنْهَا بِالتَّزْوِيجِ فَهِيَ مُبَاحٌ لَهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا.
3ـ وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَمُّونٍ قَالَ كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ ع إِلَى بَعْضِ مَوَالِيهِ لَا تُلِحُّوا عَلَى الْمُتْعَةِ إِنَّمَا عَلَيْكُمْ إِقَامَةُ السُّنَّةِ فَلَا تَشْتَغِلُوا بِهَا عَنْ فُرُشِكُمْ وَ حَرَائِرِكُمْ فَيَكْفُرْنَ وَ يَتَبَرَّيْنَ وَ يَدْعِينَ عَلَى الْآمِرِ بِذَلِكَ وَ يَلْعَنُونَا.
4ـ وَعَنْهُمْ عَنْ سَهْلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ وَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ جَمِيعاً عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِسْكِينٍ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع لِي وَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ- قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمَا الْمُتْعَةَ مِنْ قِبَلِي مَا دُمْتُمَا بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّكُمَا تُكْثِرَانِ الدُّخُولَ عَلَيَّ، وَأَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَا فَيُقَالَ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ جَعْفَرٍ.
والملاحظ في نصوص الطائفة الأولى أن الإمام (ع) ركّز تركيزاً منقطع النظير على موضوع الزواج المنقطع (=المتعة)، بل توحي بعض النصوص المتقدّمة فيها على الاستحباب كما فهم ذلك جملة من علمائنا المتقدمين.
أما نصوص الطائفة الثانية فالملاحظ فيها وخصوصاً الأخير منهما أن الإمام (ع) جعل قيوداً وشروطاً لموضوع المتعة؛ فلا يحقّ لأي شخص أن يتمتّع إلا بعد أن تتوفّر فيه شروط معيّنة، بل وضع الإمام في الرواية الأخيرة (الحرمة) على عمّار وسليمان بن خالد، فمنعهما من ممارسة هذا الفعل لأنه لحظ السياقات العامة التي تحكم تلك الحقبة الزمنية.
وبغض النظر عن محاولة تقديم وجه جمع بين هذه النصوص، وإن الطائفة الأولى تدل على الاستحباب والثانية على الكراهة كما حاول بعض الأعلام أو أن هناك وجه جمع آخر للموضوع… بغض النظر عن جميع ذلك إلا أن ما نريد طرحه في هذه العجالة هو: إن المتعة كتشريع لا كلام في صدورها من قبل المشرّع، لكن ما ينبغي تحرير البحث فيه هو: صدورها بنحو مطلق وعام لم يلحظ فيه شروط وظروف وقيود، أم أنه مقيّد بحالات خاصة وظروف طارئة واستثنائية؟
أقول: لا يمكن أن نفهم هذه النصوص المتضافرة في التأكيد على المتعة وضرورة الإتيان بها بمعزل عن السياقات والظروف المحيطة بتلك المرحلة؛ وذلك لأن مرحلة الصادقين عليهما السلام كانت تشهد تأسيساً وتقعيداً لأصول المذهب الجعفري، ونقداً لاذعاً للمناهج والمسالك التي بدأت تروّج كدكاكين يتبضّع أصحابها من خلالها تحت مظلة الدين، وفي هذا السياق جاءت النصوص الكثيرة في نقد بعض الظواهر التي بدأ الترويج لها في تلك المرحلة، لكن المؤسف أن الفهم العام لهذه النصوص جرّدها عن سياقاتها وظروفها وعن الارتكازات التي نشأت منها، فنصّ على أنها عامّة ومطلقة لا تلحظ الجو الذي صدرت فيه.
والأغرب: أن عموم المتأخرين عندما رأوا عدم إمكانية المشي وراء هذا العموم والإطلاق إلى الأخير اضطروا لاستحداث عناوين أخرى لتخصيص وتقييد ذلك، وما معنون هذه العناوين إلا نفس تلك الأمور التي قرّروا منعها مطلقاً.
والمؤسف: أن عموم من كتبوا في هذا الموضوع من الاتجاه الشيعي لم يتخلّص تحليلهم من مصادرة نفسية تفيد: إن المتعة لابد وأن تكون مباحة في عموم الأحوال والأزمان؛ لأن عمر بن الخطاب منعها وبالتالي وقف الاتجاه السني ضدها؛ كما أن عموم من نقدوا هذه المسألة من الاتجاه السني والسلفي انطلقوا من مصادرة نفسية أيضاً مفادها: أن المتعة حرام لأن الروافض جعلوها شعاراً لمذهبهم… مع أن الأولى بنا العودة إلى النصوص وتفحصها بمعزل عن التأثيرات النفسية، ورؤية الشروط والظروف التي جعلها المشرّع لمثل هذا الزواج، وما هي المرجعية المعرفية التي يحقّ لها أن تقرّر فهماً قرآنياً أو نبوياً في هذا المجال.
أظن أن الوقوف على تفاصيل هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة مفصّلة نتمنى أن نوفق لإنجازها في قسم المقالات من الموقع.