في كلّ عام تتكرّر معزوفة هلال شهر رمضان وآهاتها الحزينة، وتقرع آذاننا اعتراضات المقلّدين وتذمّرهم من الاختلافات الحاصلة بين مراجع تقليدهم، اختلافات أذهبت فرحة الأسرة الواحدة وسعادتها اليتيمة، من دون أن نسمع إجابةً شفّافةً بعيدةً عن الّلغة التخصّصيّة الدارجة في أمثال هذه المواضيع، أعني: الشمّاعة الدائميّة التي يوظّفها بعض رجال الدين لقمع بسطاء الناس ووأد […]
في كلّ عام تتكرّر معزوفة هلال شهر رمضان وآهاتها الحزينة، وتقرع آذاننا اعتراضات المقلّدين وتذمّرهم من الاختلافات الحاصلة بين مراجع تقليدهم، اختلافات أذهبت فرحة الأسرة الواحدة وسعادتها اليتيمة، من دون أن نسمع إجابةً شفّافةً بعيدةً عن الّلغة التخصّصيّة الدارجة في أمثال هذه المواضيع، أعني: الشمّاعة الدائميّة التي يوظّفها بعض رجال الدين لقمع بسطاء الناس ووأد أسئلتهم…، دعوني أفتح البحث في هذه المسألة في “تجلٍّ بسيط جدّاً” من تجليّاتها، مستخدماً لغة إيضاحيّة مبسّطة، وأنا أعي تماماً ضريبة التبسيط في أمثال هذه البحوث الفقهيّة، ولكن للضرورة أحكام كما يقولون.
#سأضع بين يديّ الخوئي وتلميذه السيستاني رواية واحدة من روايات الهلال، وأطلب من كلّ واحد منهما أن يقدّم فهمه لها واستنباطه منها، ولكن قبل ذلك عليّ أن أقدّم مقدّمة:
#كانت هناك مشكلة عند الناس تتكرّر في بدايات شهر رمضان الكريم، في مختلف المُدن والمناطق، وهي التي يسمّيها الناس “يوم الشكّ”؛ إذ يخرج الناس ليلة الخميس مثلاً لرؤية الهلال، فيطالعون في السماء ويدقّقون، يبحثون ويفتّشون، لكنهم لا يرون الهلال، فينقدح الشكّ في ذهنهم؛ تُرى: هل كان الهلال موجوداً لكنّهم لم يوفّقوا لرؤيته، أم إنّه لم يكن موجوداً أصلاً، وعلى هذا الأساس: يتركون صوم الخميس؛ لأنّهم لم يروا الهلال، والصوم والإفطار للرؤية كما هو معلوم، وبعد أن رأوه ليلة الجمعة صاموا على أساس ذلك، وبعد فترة من الزمن جاءتهم الأخبار من بلدان أخرى تقول: إن أهل تلك البلدان رأوا الهلال ليلة الخميس، أو حصل لهم علم بأنّ أهل تلك البلدان قد قضوا ذلك اليوم أيضاً، فحصل الشكّ في نفوسهم، ووقعوا في حيرة من أمرهم، تُرى ماذا يصنعون؟، أ يقضون صيام يوم الخميس، أم إنّهم غير ملزمين بذلك؟ فجاء الراوي يسأل من الإمام “ع” عن وجوب قضاء هذا اليوم وعدم وجوب ذلك، فأجابه الإمام بوضوح بالنصّ التالي:
“لَا تَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي يُقْضَى إِلَّا أَنْ يَقْضِيَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ [البلدان]، فَإِنْ فَعَلُوا فَصُمْهُ”.
#وحينما قرأ الخوئي هذه الرواية قال: المقصود من الأمصار في هذه الرواية أي جميع البلدان، سواء أكانت بعيدة أو قريبة، وعلى هذا الأساس: فإذا رُئي الهلال في بلد قريب أو بعيد عن بلدنا فسوف يثبت حكم الهلال في بلدنا أيضاً؛ فإن الشهر القمريّ واحد لجميع البلدان، فاختار القول بـ: “وحدة الأفق”.
#لكن تلميذه السيستاني رفض هذا الفهم للرواية، وقال: إن مقصود الإمام من الأمصار في هذه الرواية أي البلدان القريبة جدّاً من المكلّف، وهي البلدان التي إذا رُئي الهلال فيها فسوف يُرى في بلد المكلّف أيضاً مع عدم وجود غيم في السماء أو علّة أخرى، وليس للرواية علاقة ونظر إلى البلدان البعيدة التي تكون رؤية الهلال فيها مختلفة زماناً عن بلد المكلّف حتّى تكون رؤية الهلال فيها حجّة على بلداننا كما ذهب أستاذنا الخوئي.
وقد تسأل: لماذا ذهب السيستاني لذلك؟!
سأرجع لمثال يوم الخميس والجمعة الذي ذكرته آنفاً؛ لاستعين به لإيضاح السبب الذي قاد السيستاني إلى ذلك؛ وسنبدأ بطرح السؤال التالي: لماذا حصل عند الناس الشكّ في ثبوت الهلال ليلة الخميس، ولم يحصل هذا الشكّ عند غيرهم من البلدان؟!
يقول السيستاني: إن السبب الذي ولّد عند الناس الشكّ ودعاهم إلى عدم صوم يوم الخميس احتمالان:
#الاحتمال الأوّل: إن الناس خرجوا ليلة الخميس، وفتّشوا في السماء كثيراً، ولكن كان في السماء غيم، فلم يروا الهلال.
#الاحتمال الثاني: إن الناس خرجوا ليلة الخميس، وفتّشوا في السماء كثيراً أيضاً، وكانت السماء خالية من الغيم، ومع هذا فلم يروا الهلال.
وعلى ضوء هذين الاحتمالين يقول السيستاني: إذا كان نظر الإمام “ع” في هذه الرواية التي ذكرناها آنفاً هو مطلق يوم الشكّ الذي حصل عند الناس، سواء أكان سببه الاحتمال الأوّل أم سببه الاحتمال الثاني، أي سواء أكان في السماء غيم أم لم يكن، فالحقّ مع أستاذي الخوئي في اتّحاد الآفاق، وإن الهلال إذا ثبت في منطقة فسوف يثبت في جميع المناطق حتّى وإن كانت بعيدة، ولكن هذا الاحتمال لا مثبت له، فمن المحتمل جدّاً أن يكون نظر الإمام “ع” في هذه الرواية إلى الاحتمال الأوّل فقط، وهو ما إذا كان في السماء غيم، واستهلّ الناس فلم يروا الهلال بسبب الغيم، فحصل لهم علم بعد ذلك إن البلدان المجاورة لهم قد قضوا هذا اليوم، أو جائهم نفرٌ من هذه البلدان القريبة أيضاً، والتي خلت فيها السماء من العلّة، وشهدوا لهم إنّهم رأوا الهلال في ليلة الخميس، أي في الليلة التي كانت سماء مدينتهم محجوبة بالغيم أو الضباب، وفي مثل هذه الحالة يجب على أهل هذه المنطقة القضاء؛ لأنّ الهلال كان موجوداً بالأساس، ولكن الغيم أو الضباب حجبه عن عيونهم، أمّا إذا جائهم نفرٌ من بلدان بعيدة عنهم، وشهدوا لهم برؤية الهلال ليلة الخميس، فهذا الأمر لا يعنيهم أصلاً؛ لأنّ رؤية الهلال في تلك الليلة كانت ممكنة بالنسبة لتلك البلدان فقط، وأمّا بلد المكلّف فالهلال لم يكن له وجود في سمائهم في تلك الّلحظة لكي يجب عليهم الصيام حينئذ، والإمام لا يتحدّث في هذه الرواية عن هذا الاحتمال أصلاً لكي نتمسّك بكلامه لنقول: إن مقصود الإمام من الأمصار يشمل حتّى البلدان البعيدة عن بلد المكلّف كما ذهب لذلك أستاذي الخوئي، ومن هنا ذهب السيستاني إلى القول بـ: “اختلاف الآفاق”.
#أقول: كلّ هذا يكشف على إن العمليّة الاجتهاديّة عند مراجع الشيعة المعاصرين تعاني معاناة كبيرة في موضوع الذوق العرفي العربي في فهم النصوص، وفي تأطير الفهم بمجموعة من الأدوات الاحترافيّة الصناعيّة، التي تلوي عنق النصوص مهما كان قويّاً، بل وفي التقيّد الأكثر من الّلازم بحرفيّة النصوص الروائيّة.