ينقدح في ذهن كلّ متابع يقرأ أحداث مرحلة ما بعد رحيل الصّادق “ع” بدقّة وتحقيق وتمحيص… سؤالٌ جادّ مفاده: تُرى لماذا لم يُرو عن الكاظم “ع” ذمّاً وقدحاً لمن آمن بإمامة أخيه عبد الله المُلقّب بعد ذلك بالأفطح بينما روي عن سابقيه ولاحقيه من الأئمّة “ع” ذمّاً لبعض الفرق الأخرى من قبيل الزّيديّة والواقفيّة… تُرى ما هو سبب ذلك؟!
#أجاب المحدّث النّوري عن هذا السّؤال في كتابه خاتمة المستدرك قائلاً: «أعلم… إنّ الفطحيّة أقرب المذاهب الباطلة ـ حسب تعبيره ـ إلى مذهب الإماميّة، وليس فيهم معاندة وإنكار للحقّ وتكذيب لأحد من الأئمة الأثنى عشر “ع”، بل لا فرق بينهم وبين الإماميّة ـ أصولاً وفروعاً ـ أصلاً إلّا في اعتقادهم إمامة إمام بين الصادق والكاظم “ع” في سبعين يوماً، لم تكن له راية فيحضروا تحتها، ولا بيعة لزمهم الوفاء بها، ولا أحكام في حلال وحرام، وتكاليف في فرائض وسنن وآداب كانوا يتلقّونها، ولا غير ذلك من الّلوازم الباطلة، والآثار الفاسدة الخارجيّة المريبة غالباً على إمامة الأئمة الذين يدعون إلى النار، سوى الاعتقاد المحض الخالي عن الآثار، الناشئ عن شبهة حصلت لهم عن بعض الأخبار، وإنّما كان مدار مذهبهم على ما أخذوه من الأئمة السابقة واللاحقة “صلوات اللّه عليهم” كالإماميّة».
#ويستمرّ المحدّث النّوري في بيان هذه الحقيقة الّتي لا تنسجم مع التربية المذهبيّة والفقهيّة والمنبريّة المعاصرة ـ بل ومع بعض عوامّ طلاّب الحوزة أيضاً ـ ليؤكّد إنّ ما ذكره ليس كلاماً تحليليّاً خالياً من الدّليل، بل سببه عدم ورود لعن وذمّ من قبل الأئمّة “ع” تجاههم و عدم أمرهم بمجانبتهم كما ورد ذمّ الزيديّة والواقفة وأمثالهما ولعنهم، والّذين جعلوهم والنّصّاب بمنزلة واحدة ومُنعت مجالستهم أيضاً كما هو المرويّ عنهم، ولُقّبوا إثر ذلك بالكلاب الممطورة الّتي هي نجسة في ذاتها وتنجّس من يلامسها، أمّا الفطحيّة فلم يُعثر على نصّ يذمّهم، بل كانت معاملتهم “ع” معهم في الظّاهر معاملة الإماميّة، وأمروا بأخذ ما رووه بنو فضّال وهم عمدهم، ورواياتهم لا تحصى كثرة. [مستدرك الوسائل: ج23، ص13].
#أقول: إن عدم معاملة الأئمّة “ع” للفطحيّة معاملة غيرهم من الفِرَق يقدّم لنا مزيداً من النّتائج الهامّة حسب المنهج المختار ومنها:
#أوّلاً: عدم وضوح روايات التّنصيص على الأئمّة الأثني عشر واسمائهم بشكل سماوي ونبويّ قبلي في أذهان ممثّلي الاتّجاه الرّسمي لأصحاب الأئمّة المتقدّمين والمتوسّطين “ع”، وعدم الوضوح لدى أمثال هؤلاء يكشف عن أشياء كثيرة لا نجد الفرصة مناسبة للحديث حولها، ونعد بها في منشورات قادمة إن شاء الله العليم الجّبّار.
#وثانياً: إنّ تعامل الكاظم “ع” مع هذه الفرقة ذات الامتداد الواسع والتّأثير الكبير على شيعة ذلك العصر بهذه الطّريقة الاحتوائيّة المسالمة يحمل درساً كبيراً لنا في هذه الأيّام، ويوضّح لنا بجلاء بعدنا عن تعاليمه وسيرته ومنهجه؛ فإنّ من لا يؤمن بقصّة كسر ضلع الزّهراء “ع” مثلاً ـ وهي قضيّة تاريخيّة صرفة ـ ويؤمن بجميع ما عدا ذلك عدّه كبار مراجع الطّائفة ضالّاً منحرفاً لا يجوز التّرويج له بينما يتعامل الكاظم “ع” من لا يؤمن بإمامته تعامل الشّيعي ويحفظ له كلّ حقوقه الّلازمة…فهل من معتبر؟!