#عقد المرحوم الكليني في كتابه الكافي مجموعة أبواب تحمّلت مسؤوليّة عرض الرّوايات الّتي جاءت فيها الإشارة والتنصيص على كلّ إمام من الأئمّة الإثني عشر المعروفين؛ باعتبار إنّ مشهور الطّائفة الإماميّة الإثني عشريّة يعتقد بالإمامة الإلهيّة الّتي لا خيار للنّاخبين في فعليّتها ولا فاعليّتها أصلاً، وإنّ الكاشف الوحيد عنها هو النّص الإلهيّ وما يُشير إليه كما […]
#عقد المرحوم الكليني في كتابه الكافي مجموعة أبواب تحمّلت مسؤوليّة عرض الرّوايات الّتي جاءت فيها الإشارة والتنصيص على كلّ إمام من الأئمّة الإثني عشر المعروفين؛ باعتبار إنّ مشهور الطّائفة الإماميّة الإثني عشريّة يعتقد بالإمامة الإلهيّة الّتي لا خيار للنّاخبين في فعليّتها ولا فاعليّتها أصلاً، وإنّ الكاشف الوحيد عنها هو النّص الإلهيّ وما يُشير إليه كما هو واضح ومشهور أدبيّات هذه الطّائفة.
#وقد وصفنا ـ في دراسات سابقة ـ جملة من هذه النّصوص والكواشف الّتي أفادها الكليني في هذا الشّأن بكونها من صنف الأدلّة ما بعد الوقوع، بمعنى: إنّها جاءت بعد إسقاط نظريّة الأئمّة الإثني عشر على الواقع التّاريخيّ المتصرّم حتّى أصبحت شعاراً للطّائفة الشّيعيّة في مرحلة الحيرة الكبرى في أواخر عصر ما يُصطلح عليه بالحضور، كما إنّ بعض هذه النّصوص والكواشف ليس لها علاقة بهذا الفهم المتأخّر أصلاً وإنّما كانت تهدف أموراً أخرى ليس لها علاقة بما أريد استنتاجه منها، وبالتّالي فجملة من هذه النّصوص إمّا: منحوتة لا واقع لها أصلاً وإمّا إنّها حُمّلت وأسقطت عليها دلالات بعديّة لم تكن أصل هذه النّصوص ناظرة إليها البتّة، وقد تناولنا أمثلة لهذه النّصوص في مقالات إمامة الكاظم “ع” المفصّلة فلا نعيد.
#أمّا اليوم وفي سياق «سلسلة آل الحسن “ع”» فسنتوقّف مع روايتين من روايات: «باب الإشارة والنّص على عليّ بن الحسين “ع”» كما جاءت في كتاب الكافي لتفحّصها واستيضاحها؛ حيث أورد المرحوم الكليني أربع روايات فقط للدّلالة على إمامة السّجاد “ع” الإثني عشريّة الإلهيّة، وما يهمّني فعلاً هو الرّواية الأولى والثّانية منهنّ فقط والّتي كان لفاطمة بنت الحسين الشّهيد “ع” الدّور الأساس فيهما.
#أمّا الأولى: فقد أوردها الكليني أولاً كجزء من رواية طويلة أوردها تحت باب: «ما نصّ الله عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة “ع” واحداً فواحداً»، وأوردها مستقلّة ثانياً في: «باب الإشارة والنّص على عليّ بن الحسين “ع”»، وهي بسنديه عن أبي الجّارود ـ وهو زياد بن المنذر ـ عن الباقر “ع” ـ المعاصر لعمّته فاطمة بنت الحسين ع والقريب من سنة ولادتها ووفاتها أيضاً ـ حيث قال “ع” لأبي الجّارود: «إنّ الحسين بن عليّ “ع” لمّا حضره الّذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين “ع”، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصيّة ظاهرة، وكان عليّ بن الحسين مبطوناً معهم لا يرون، إلّا أنّه لَمِا به فدفعت فاطمة الكتاب إلى عليّ بن الحسين “ع”، ثمّ صار والله ذلك الكتاب إلينا يا زياد». وحينما سأله زياد ـ كما في الرّواية ـ عمّا في ذلك الكتاب؟ أجابه الباقر “ع” كما في الرّواية: «والله [فيه] ما يحتاج إليه ولد آدم منذ خلق الله آدم إلى أن تفنى الدّنيا، والله إنّ فيه الحدود حتّى إنّ فيه أرش الخدش». [الكافي: ج1، ص91؛ ج1، ص303].
#وأمّا الرّواية الثّانية فهي تحمل نفس المضمون تقريباً، لكنّ حذف منها مشهد مرض السّجاد “ع”؛ حيث جاء فيها عنه “ع”: «لمّا حضر الحسين “ع” ما حضره دفع وصيّته إلى ابنته فاطمة، ظاهرة في كتاب مُدرج، فلمّا أن كان من أمر الحسين “ع” ما كان دفعت ذلك إلى عليّ بن الحسين “ع”، قلت له ـ والكلام لأبي الجّارود مخاطباً الباقر “ع” ـ فما فيه يرحمك الله؟ فقال: ما يُحتاج إليه ولد آدم منذ كانت الدّنيا إلى أن تفنى» [المصدر السّابق: ص304].
#أقول: هل تتصوّر معي فداحة المشكلة وعظم خطبها وكيف مرّرت علينا هذه المقولات طيلة قرون زمنيّة عدّة ولا زالت حتّى الّلحظة؟! وهل تتعقّل: إنّ الإمامة الإلهيّة للسجّاد “ع” لا طريق لإثباتها عند أهمّ كتاب حديثيّ شيعيّ إثني عشريّ إلّا هذه الرّوايات المهلهلة وأضرابها وبهذه الآليّات المخيّبة أيضاً؟! سأغمض الطّرف عن المشاكل السّنديّة العميقة المتوافرة في هذه النّصوص كما هو تصريح كبارهم؛ حيث سأفصّل الحديث عن راويها الأوّل أبي الجّارود والّذي وظّفته الماكنة الكلاميّة والحديثيّة الإثني عشريّة لرواية أمثال هذه الرّواية لاحقاً، وسأغمض الطّرف عن الاضطرابات المتنيّة في هذه النّصوص أيضاً… أقول سأغمض الطّرف عن جميع ذلك لأعلّق بما يلي:
#أوّلاً: ما دام الحديث لحدّ الّلحظة قائماً في إثبات الإمامة الإلهيّة للباقر “ع” إذن فلا يمكن لنا أن نتعقّل رواية الباقر “ع” لهذه الحادثة وهو في عمر لم يتجاوز الخمس سنوات حينذاك؛ إذ تحمّله رواية مثل هذا المضمون وجواز الاحتجاج به أمر ترفضه بدهيّات علم الرّجال والرواية، الّلهم إلّا أن تكون الرّواية مرسلة كأن يكون قد رواها عن أبيه السّجاد “ع” مثلاً، وهو كما ترى كما يقولون، وقد نوّهنا سلفاً في سياق منهجنا الاجتهاديّ: إنّ إمامة الإمام لا تثبت لا برواياته ولا بمرويّاته فراجع.
#وثانياً: أنا لا أدري لماذا يعمد الحسين الشّهيد “ع” إلى دفع الوصيّة إلى فاطمة ويتجاوز أخته البالغة العاقلة الرّشيدة زينب بنت عليّ “ع” مثلاً؟! وهل كان الحسين “ع” بهذه العمليّة يُريد أن يوصد الطّريق أمام إمامة الحسنيّين من ولد كريمته فاطمة بأن يجعل أمّهم شاهدة على كون الإمامة تختصّ بولده حصراً؟! سنتابع لاحقاً روايات وصيّة الحسين “ع” المدّعاة إلى غير فاطمة لندقّق فيها أيضاً.
#وثالثاً: إذا كانت فاطمة بنت الحسين الشّهيد “ع” شاهدة حيّة على هذه الوصيّة فلماذا لم تُبلغ أبناءها الثّوار بذلك، ولماذا لم تقل لهم: إنّ الإمامة الإلهيّة يا أولادي هي في صلب والدي الحسين “ع” وليس في صلب جدّكم الحسن “ع”، وعليكم الامتثال لأولاد عمومتكم وطاعتهم وتقليدهم في جميع حركاتكم وسكناتكم خصوصاً بعد فرضيّة تديّنهم وورعهم كما سنفصّل الحديث عن ذلك لاحقاً؟! مع إنّ كتب التّاريخ والرّواية لم تنقل لنا ذلك بل إنّ مواقف أولادها ـ بل مواقفها هي أيضاً ـ تخالف ذلك تماماً؟!
#ورابعاً: أنا لا أعلم كيف أمكن أن تشتمل وصيّة على جميع ما تحتاجه البشريّة حتّى قيام يوم الدّين الّذي لا يعلم مخلوق ساعته على الإطلاق وتقع في وصيّة المفروض إنّها صغيرة لا تتجاوز الصّفحة أو الصّفحتين؛ فهل كانت هذه الصّفحة إلهيّة سماويّة يمكنها أن تحتوي على جميع هذه الاحتياجات على طريقة الإعجاز، إم إنّها تُشبه جهاز وحدة تخزين البيانات المستخدمة في الأجهزة الإلكترونيّة الحديثة؟!
#وأخيراً: لا شكّ لديّ بأنّ هذه الرّواية وأضرابها إنّما هي وليد طبيعي للصّراع الشّيعي الدّاخلي؛ فأريد من خلال هذا النّموذج من الرّوايات ورواتها قمع فرق الزّيديّة والجّاروديّة وأشباهها، وذلك من خلال تمرير روايات ينقلها زعماؤها وقادتها ورموزها وإقناع القواعد الشّيعيّة الموسويّة والإثني عشريّة على طريقة والفضل ما شهدت به الأعداء… وسنعمّق الحديث عن هذا الموضوع بغية إثرائه لاحقاً فترقّب وتأمّل.