#أوضحنا فيما تقدّم: فقدان الدّليل الرّوائي المعتبر على استحباب زيارة الأربعين بخصوصها، وقرّرنا هناك: إنّ حالها لا يختلف عن زيارة الخمسين أو السّتين أو الثّلاثين أو العشرين من حيث الاستحباب العامّ الّذي ثبت عندهم لزيارة قبر الحسين بن عليّ “ع” في عموم الأوقات، وقلنا: إنّ الفقهاء الّذين ادّعوا ذلك قلّدوا الطّوسي في هذه المسألة وتمسّكوا […]
#أوضحنا فيما تقدّم: فقدان الدّليل الرّوائي المعتبر على استحباب زيارة الأربعين بخصوصها، وقرّرنا هناك: إنّ حالها لا يختلف عن زيارة الخمسين أو السّتين أو الثّلاثين أو العشرين من حيث الاستحباب العامّ الّذي ثبت عندهم لزيارة قبر الحسين بن عليّ “ع” في عموم الأوقات، وقلنا: إنّ الفقهاء الّذين ادّعوا ذلك قلّدوا الطّوسي في هذه المسألة وتمسّكوا بروايتين يتيمتين مرسلتين ساقطتين عن الاعتبار أوردهما الطّوسي في تهذيبه ومصباحه، أمّا الأولى: فهي رواية علامات المؤمن الخمس المرويّة عن العسكري “ع” من دون إسناد، وقد تمسّكنا بقرينة رواية علامات المؤمن العشر المرويّة عن العسكري “ع” أيضاً لإسقاطها عن الاعتبار فضلاً عن مشكلة إرسالها، وأمّا الثّانية: فهي رواية صفوان بن مهران، وقد ذكرنا فيما تقدّم: إنّ في الرّواية مشكلة سنديّة عميقة لم يلتفت لها أحدٌ من الأكابر للأسف الشّديد وهو أمر غريب ومريب، وهي: تعذّر رواية محمد بن علي بن معمر عن الحسن بن عليّ بن فضّال؛ فالأوّل من صغار الطّبقة الثّامنة والثّاني من كبار الطّبقة السّادسة، ومن الواضح إنّ رواية الأوّل عن الثّاني ستكون غير مسندة جزماً، ومن ثمّ: فهي مرسلة ساقطة عن الاعتبار، وهذا من الواضحات كما أسلفنا الحديث عنه مفصّلاً.
#إن قلت: أ لا يمكن التّمسّك بزيارة جابر بن عبد الله الأنصاري إلى قبر الحسين بن عليّ “ع” في هذا اليوم والّتي ذكرها المفيد والطّوسي في أعمال يوم العشرين من صفر حيث قرّرا بأنّه: «اليوم الذي ورد فيه جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري صاحب رسول الله “ص” ورضي عنه من المدينة إلى كربلاء لزيارة قبر أبي عبد الله “ع”، فكان أول من زاره من الناس» [مصباح المتهجّد: ج2، ص788].
#قلت: إنّ الاستحباب حكم شرعيّ كغيره من الأحكام الشّرعيّة الأخرى كما قرّر الفقهاء المعاصرون، وهذا يعني إنّ إثباته يتوقّف على قيام خبر بمواصفات خاصّة من حيث السّند والدلالة، وعليه: فلا يمكن الاعتماد في إثبات الاستحباب الخاصّ لزيارة الأربعين على زيارة جابر في يوم العشرين من صفر لسنة: “61 هـ”؛ ليس لأن إثبات مثل هذه الزّيارة في مثل هذا التّاريخ أمرٌ غير معقول بالمرّة لأن الزمان لا يسع ذلك كما يظهر من الأخبار والآثار مهما حاولنا تأويل ذلك وترقيعه فحسب، وليس لأنّ هذه الزّيارة لم تُذكر بطريق مسند معتبر في أيّ مصدر تاريخي أو حديثي سوى إيراد المفيد والطّوسي وهم أبناء القرن الخامس الهجري لها بشكل مرسل فقط، وليس لأنّ نقلهم لهذه الزّيارة خال من الأسناد فلا يصلح لبناء الحكم الشّرعيّ عليه وفقاً للمقاييس الرّجاليّة المعاصرة كذلك… جميع هذا ليس هو المهمّ فعلاً وإنّما المهمّ عند محقّقي الفقهاء المعاصرين هو: إنّ فعل جابر بما هو هو لا يوجب على الإنسان تكليفاً شرعيّاً ولو بدرجة خفيفة فضلاً عن أن يُصار إلى إثبات الاستحباب الشّرعي الخاصّ عن طريقه؛ إذ لم يثبت في علم الكلام الشّيعي وجوب إطاعة جابر ولم تثبت كاشفيّة أفعاله عن رغبة إلهيّة أيضاً إلّا من خلال نصوص وتصوّرات ما بعد الوقوع.
#أمّا الأسانيد والتّفاصيل الّتي ركّبت وأضيفت لزيارة جابر بصيغتها المتداولة حاليّاً على منابرنا اليوم وكأنّها مجلس حسيني كامل فهي من الاختراعات الّتي أوردها محبّ الدين الطّبري المتوفّى حسب الظّاهر ما بعد عامّ: “553هـ”، في كتابه المملوء بالأساطير والخرافات والغلو المسمّى: “بشارة المصطفى لشيعة المرتضى”، ونُسبت بلا دليل إلى عطيّة العوفي أو عطا، وقد نصّ الرّجالي المعاصر المرحوم الشّوشتري على إنّ ما «اشتهر من كونه [أي عطيّة العوفي] مع جابر في زيارة الأربعين لم أقف على مستنده» [قاموس الرّجال: ج7، ص211]، والطريف إنّ الطّبري الشّيعي نصّ في مقدّمة كتابه بأنّه لا يذكر «فيه إلا المسند من الأخبار، عن المشايخ الكبار والثقات الأخيار» [!!].
#ومن المحتمل أن الطّبري الشّيعي كان يقصّ هذه الحكايات بعد أن سمعها على الشّيعة الّذين كانوا يلتفون حوله في تلك الأيّام بمباركة الأمير الكردي ورّام بن أبي فراس جدّ المرحوم ابن طاووس لأمّه، حيث نصّ ابن اسفنديار صاحب تاريخ طبرستان الّذي ألّفه في سنة: “613هـ” في ترجمة محبّ الدّين الطّبري ما يلي: «الخواجة الإمام عماد كجيج، فقيه آل محمد “ع”، وكان عالماً زاهداً ومتديّناً، استبقاه الأمير ابن ورّام في الحلّة نحو سنتين، واتّصل به للاستفادة منه أهل بغداد والكوفة وشيعة سواد العرب، وكان قد عيّن الأمير لنفقاته عن كلّ عام ألف دينار…» [ص140].
#فتحصّل ممّا تقدّم: عدم إمكان إثبات الاستحباب الخاصّ لزيارة الأربعين بدليل معتبر وفقاً لمباني محقّقي الفقهاء المعاصرين، ومن هنا صدق شيخ المحدّثين المجلسي حينما قال: «أعلم أنّه ليس في الأخبار ما العلّة في استحباب زيارته “صلوات الله عليه” في هذا اليوم [أي العشرين من صفر]…» [بحار الأنوار: ج98، ص334]، كما اتّضح الكلام فيما احتمله المجلسي من كون استحباب هذه الزّيارة ناشئاً من التأسّي بزيارة جابر؛ إذ أوضحنا إنّ التأسّي الّذي ينتج استحباباً هو التأسّي بمن تجب طاعته وهو غير ثابت في المقام، نعم زيارة الحسين “ع” في هذا اليوم لا تختلف عن زيارته في بقيّة الأيّام غير المخصوصة من حيث كونها مستحبّة عندهم استناداً إلى الدّليل العامّ، لكنّ هذا مطلب آخر لم تروم مقالاتنا التّعرّض له من خلال هذه المنشورات، آملاً أن تكون هذه البحوث نافعة في طريق العلم والمعرفة بعيداً عن المذهبيّة المقيتة، والله من راء القصد.
#تنوير: وردت زيارة جابر في يوم العشرين من صفر في كتاب الملهوف لابن طاووس المتوفّى سنة: “664هـ” بشكل مرسل أيضاً وبتفاصيل وإضافات مختلفة يبدو إنّها تأثّرت من أجواء الحلّة في ذلك الوقت، وهي لا تختلف في عدم اعتبارها عن سالفتها، وربّما نوفّق للحديث عنها في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى