#حينما يُؤسَّر وعي الباحث بالقيود المذهبيّة!!
تحدّثت سابقاً عن القيود الكلاميّة والأصوليّة أو المذهبيّة بشكل عام، والتي تكبّل يدي الفقيه أو الباحث الشيعي وهو يقرأ النصوص الروائيّة التي جاءت عن الأئمّة الأطهار “ع”، وهي قيود تحدو به أحياناً إلى إلغاء عقله والانسياق مع ظاهرة التوجيه المستفحلة بشكل خاطئ في منظوماتنا العلميّة، فيبدأ بتوجيه الاشتباه تلو الاشتباه؛ لتتراكم الأخطاء وتستحكم في الوعي الشيعي ويصعب حينئذ اقتلاعها، وسأقدّم للمتابعين نموذجاً أوّليّاً ناشئاً من فقدان التتبّع وهيمنة تلك الأسارات المذهبيّة:
#روى الكليني بإسناده عن موسى بن بكر، إنّه قال: لقد سمعت الإمام الكاظم “ع” عدّة مرّات وهو ينشد البيت التالي:
فإن يك يا أميم عليّ دين، فعمران بن موسى يستدينُ.
وحينما جاء المحدّث الكاشاني (1598ـ1680م) إلى شرح هذا الرواية افترض في رتبة سابقة إن عمران بن موسى الذي جاء في البيت الشعري هو النبي: موسى بن عمران “ع”، ولكن الذي دعا الشاعر لقلب اسمه بهذه الطريقة هو الحفاظ على الوزن الشعري!!. أمّا تلميذه المحدّث المجلسي (1616ـ 1698م) فقد أقرّ ما أفاده أستاذه الكاشاني، ودلّل على هذا الفهم بوجود نسخة [بل عدّة نسخ خطّيّة صحيحة] من كتاب الكافي تروي البيت الشعري الذي في الرواية بصيغة: “فموسى بن عمران”… . ولم يكتف بذلك، بل انساق مذهبيّاً لتوجيه ما جاء في هذه النسخ الصحيحة فقال:
#فلعلّه “عليه السلام” غيّره [أي البيت] لموافقته للواقع، ولكراهة الشعر، مع أنّه يمكن أن يقرأ موزوناً بإسقاط النون…!!” [مرآة العقول: ج19، ص46].
#ولكن حينما يأتي محقّق بقامة الشيخ محمد تقي الشوشتري (1902ـ1994م)، متجاوزاً بعض هذه الأسارات، مدقّقاً متابعاً متفحّصاً بتجرّد وأفق رحيب نلاحظه يفيد: إن “عمران بن موسى” في البيت الشعري ليس له علاقة بالنبيّ موسى، بل هو: عمران بن موسى بن طلحة الصحابي المعروف، صاحب يوم الجمل، ونقل نصّاً من كتاب نسب قريش لبيان هذه الحقيقة، وحينما راجعت ـ وأنا مشغول حاليّاً بتحقيق كتاب الأخبار الدخيلة للشوشتري ـ كتاب أنساب الأشراف للبلاذري وغيره من الكتب الأخرى: وجدت فيها ما يرفع المشكلة من هذه الرواية من الأساس حيث قيل: “وأما عمران بن موسى بن طلحة فكان سخياً، وهو الذي يقول فيه الشاعر:
فإن يك يا جداح علي دين … فعمران بن موسى يستدين
تلم به الخصاصة ثمّ يأوي … إلى أبياته كرم ودين
فما يعدمك لا يعدمك منه … نبيذ التمر واللحم السمين
#ومجمل القول: ما قدّمته أنموذجاً بسيطاً جدّاً من طبيعة القيود الكلاميّة والأصوليّة والمذهبيّة التي تهيمن على الباحث وهو يقرأ النصوص الروائيّة، لا تسمح له بافتراض الخطأ فيها ولا الاشتباه، بل تجبره بشعور أو بغير شعور على التوجيه والتبرير؛ فكراهة الشعر مثلاً لدى المحدّث المجلسي أجبرته على توجيه قلب البيت الشعري من قبل الإمام لعدم انبغاء ممارسة المكروه بالنسبة إليه، وكأنّنا إذا خلخلنا الوزن الشعري تخلّصنا من الشعر الذي لا ينبغي للإمام حسب تصوّراته!!، وقس على ذلك ما شاء الله من الأسارات الكلاميّة والأصوليّة والمذهبيّة بشكل عام، والتي نتمنّى أن نوفّق لاستعراضها وتحليلها في دراسات مستقلّة، والله من وراء القصد.