#ذكرنا فيما مضى موضوع استفاضة وتعاضد الأخبار ـ عندهم ـ النّاصة على أصل حيرة الفقيه الكبير زرارة بن أعين في معرفة الإمام من بعد الصّادق “ع”؛ حيث أفادت عمومها إنّ زرارة أرسل ولده إلى المدينة لتقصّي الأخبار حول هذا الموضوع لكن المنيّة أدركته قبل عودة ولده بالخبر الحاسم، وقد قلنا هناك إنّ مجموع الأخبار ستّة، وقد صحّح المرحوم الخوئي أثنين منها وضعّف أربع، وهذا يعني تماميّة أصل الحيرة خصوصاً إذا ما قرأناها في سياق الحدث التّاريخي والكلامي الجّزمي الّذي كشف عن تشرذم شيعة الصّادق “ع” وخُلّص أصحابه إلى فرق عديدة بعد رحيله، لكن حيث إنّنا وعدنا القارئ الكريم فتح باب التّحقيق في حيرة زرارة ـ والّتي سعى المرحوم الصّدوق إلى تمييعها وسعى المتأخّرون إلى تكذيبها ـ أجد من المناسب انتقاء رواية من روايات حيرة زرارة المرميّة بالضّعف السّندي؛ لنفتّش عن سبب ضعفها ونعود بعد ذلك إلى قراءة الحقيقة وفقاً لمنهجنا المختار وتعزيزها بأدلّة وشواهد لا سبيل إلى إنكارها في مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى.
#روى الكشّي بسنده عن علي بن حديد عن جميل بن درّاج القول: «ما رأيت رجلاً مثل زرارة بن أعين، إنّا كنا نختلف إليه فما كنّا حوله إلا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلّم، فلما مضى أبو عبد الله [الصّادق] “ع”، وجلس عبد الله [الملقّب بعد ذلك بالأفطح] مجلسه بعث زرارة عبيداً ابنه زائراً عنه؛ ليتعرّف الخبر ويأتيه بصحته، ومرض زرارة مرضاً شديداً قبل أن يوافيه ابنه عبيد، فلمّا حضرته الوفاة دعا بالمصحف فوضعه على صدره ثم قبلّه، قال جميل [بن درّاج]: حكى جماعة ممن حضره أنه قال: الّلهم إنّي ألقاك يوم القيامة وإمامي من بيّنت في هذا المصحف إمامته، اللهم إنّي أحلّ حلاله وأحرّم حرامه وأؤمن بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وخاصّه وعامه، على ذلك أحيا وعليه أموت إن شاء الله».[الكشّي: ص155].
#وهذه الرّواية واضحة وصريحة وجليّة أيضاً في إنّ زرارة لم يكن يعلم باسم شخص الإمام من بعد الصّادق “ع” على الإطلاق، وإنّه قد أرسل ابنه لتحرّي الأخبار في هذا الخصوص لكنّه مات قبل عودته إلى المدينة، وهو أمر يكشف عن جهل كبير فقهاء مدرسة الإمام جعفر بن محمد الصّادق “ع” بخليفته خلافاً لأدلّة الإمامة الشّيعيّة التّي جاءت بعد الوقوع، لكنّ المرحوم الخوئي أسقط هذه الرّواية عن الاعتبار قائلاً: «هذه الرواية ضعيفة بعلي بن حديد».
#وقبل أن أكشف عن سبب هذا التّضعيف أجد من الّلازم أن أسأل المرحوم الخوئي هذا السّؤال: إنّ علي بن حديد قد ورد في أسناد تفسير القمّي فضلاً عن كامل الزيّارات، والمفروض بسماحتكم أن تلتزموا بتوثيقه بناءً على المبنى المعروف عندكم من وثاقة أسانيد هذين الكتابين وإن تراجعتم عن الاعتماد على أسانيد الكتاب الأخير في أواخر حياتكم، وعليه: فما هو السّبب الّذي دعاكم إلى التّخلي عن تطبيق مبناكم الرّجالي في هذا المكان؟!
#يجيب الخوئي: إنّ ما بيّنتموه من مبناي الرّجالي وكون عليّ بن حديد وارد في أسانيد تلك الكتب صحيح لا غبار عليه، ولكنّ مع هذا كلّه فلا التزم بتوثيقه؛ وذلك لأنّ الشيخ الطّوسي قد ذكر في مواضع من كتابيه التّهذيب والاستبصار أنّه مضعّف جدّاً، وهذا الأمر يمنعني من الحكم بوثاقته.
#وسواء أ كان هذا التّبعيض فنّيّاً انسياقاً مع قاعدة تقديم التّوثيق الخاصّ على التّوثيق العامّ أم كان انتقائيّاً كما نلحظ ذلك في بعض بحوث المرحوم الخوئي الفقهيّة والرّجاليّة لكنّا سنتجاوز ذلك ونفتّش عن سبب وصف الطّوسي لعليّ بن حديد في تهذيبه واستبصاره بكونه ضعيفاً جدّاً؛ وقد ذكروا بعض الأسباب لذلك لكن يبدو لي إنّ السّبب الرّئيس والرّاجح لتضعيف مرويّات علي بن حديد هو: تحفّظات الأخير على مرويّات هشام بن الحكم وتلميذه يونس بن عبد الرّحمن، وهي تحفّظات كشفت عنها بعض المرويّات المادحة لعلي بن حديد أيضاً لكنّ المرحوم الخوئي وصفها بالضّعيفة، وعليه: فحيث إنّ الطّوسي حسب إنّ علي بن حديد يقدح في هشام بن الحكم وتلميذه يونس بن عبد الرّحمن لجأ إلى تضعيفه، لكن الظّاهر إنّ الطّوسي قد تراجع عن هذا التّضعيف، وشاهد هذا التّراجع إنّه لم يذكر تضعيفاً لابن حديد في كتبه الرّجاليّة المختصّة والمتأخّرة كالفهرست والرّجال؛ ولو كان علي بن حديد مضعّفاً جدّاً عنده لما كان من المناسب إغفال ذكر هذا التّضعيف الشّديد في كتابيه المختصيّين بهذا العلم، كما إنّ النجاشي لم يذكر تضعيفاً له أيضاً وهو الملتزم بذكر توثيق وتضعيف الأشخاص، أضف إلى ذلك فإنّ رواية علي بن الحسن بن علي بن فضّال لكتابه وإكثار رواية أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عنه يؤكّد وثاقته أيضاً فضلاً عن روايات الكشّي المادحة له، خصوصاً وقد كانت لشيخ القمّيين تحفّظات واضحة أيضاً على مرويّات هشام ويونس وإن روي تراجعه عنها أخيراً بل تراجع علي بن حديد أيضاً، وربّما يكون هذا الترّاجع هو سبب تراجع الطّوسي عن تضعيفه أيضاً.
#وإن أبيت توثيق هذا الرّاوي وفقاً لمتبنيات القوم فإنّ الطّوسي نصّ على عدم انبغاء التّعويل على ما ينفرد به، ومن الواضح: إنّ حيرة زرارة لم ينفرد بنقلها عليّ بن حديد، بل جاءت في مرويّات مستفيضة ومتعاضدة بل بعضها صحيحة السّند عندهم بلا إشكال ولا ريب، نعم إنّما صحّحنا هذه الرّواية لأهميّة الذّيل الوارد فيها.
إن قلت: من المحتمل إن يكون تضعيف الطّوسي لعلي بن حديد هو الفطحيّة الّتي نسبها له نصر بن الصّباح حسب نقل الكشّي؟!
#أقول: نسبة الفطحيّة له تفرّد بنقلها المغالي نصر بن الصّباح دون غيره، على إنّ الطّوسي نفسه يكذّب كون هذا الأمر هو الّذي دعاه إلى تضعيف علي بن الحديد حيث قال في مناقشة بعض الأخبار: «وهذه الأخبار أربعة منها الأصل فيها عمّار بن موسى السّاباطي، وهو واحد قد ضعّفه جماعة من أهل النّقل، وذكروا أنّ ما ينفرد بنقله لا يعمل به لأنّه كان فطحيّاً، غير إنّا لا نطعن عليه بهذه الطّريقة؛ لأنّه وإن كان كذلك فهو ثقة في النّقل لا يُطعن عليه فيه، وأمّا خبر زرارة فالطّريق إليه علي بن حديد، وهو مضعّف جدّاً لا يُعوّل على ما ينفرد بنقل» [تهذيب الأحكام: ج7، ص101]، ومن الواضح لو كانت الفطحيّة سبباً في تضعيف علي بن حديد عند الطّوسي لأشار إليها وها هو أشار إليها قبل بضع كلمات ونصّ على عدم انبغاء جعلها مرتكزاً لتضعيف مرويّات عمّار السّاباطي وهو الفطحي بالاتّفاق، فهذا الاحتمال ساقط من رأس، ومنه يظهر التّأمّل فيما ذكره المحدّث النّوري من احتماله كون تضعيف الشّيخ راجع إلى ذلك ومحاولة دفع ذلك.
#وممّا تقدّم يظهر تماميّة سند هذه الرّواية خلافاً لما أفاده المرحوم الخوئي، بل إنّ علي بن حديد موثّق عند جملة من الرّجاليين المعاصرين. [يُتبع].