حيرة زرارة بين الزّاويتين الرّجاليّة والكلاميّة!!

#أغفل عموم الرّجاليّين الشّيعة الإشارة إلى الزّاوية الكلاميّة الخطيرة الّتي تترتّب على جهل زرارة بن أعين باسم الإمام الّذي يلي الصّادق “ع” وهم يتعرّضون ويمحّصون الرّوايات المستفيضة الّتي تعرّضت لهذا الموضوع، واقتصر بحثهم ـ وربّما لأسباب تدوينيّة ـ على الزّاوية الرّجاليّة فقط والّتي تعني باختصار: البحث في دلالة هذه الرّوايات على ذمّ زرارة والقدح في وثاقته وعدم دلالتها على ذلك، ومن الواضح والجّلي: إنّ هذه الزّاوية من البحث ليست محط نظر في مقالاتنا أصلاً؛ إذ نحن نؤمن بوثاقة وجلالة قدر زرارة وكونه من خُلّص أصحاب الإمامين الباقر والصّادق “ع” وناقل علومهم ومروّج أحكامهم…إلخ، ولا شكّ لدينا في عدم دلالة مثل هذه النّصوص على ذمّه أو القدح فيه على الإطلاق، نعم نركن إلى هذه النّصوص لاستظهار نتيجة كلاميّة كبيرة حاول كثيرون طمسها أو تمييعها بعدّة بيانات مذهبيّة وغير ذلك كما أوضحنا وسنوضح في القادم من المقالات.
#بيان ذلك: أشرت فيما تقدّم إلى وجود ستّ روايات تتحدّث عن حيرة زرارة وجهله باسم الإمام الّذي يلي الصّادق “ع”، وذكرت إنّ المرحوم الخوئي صحّح أثنين منها فقط وضعّف الباقي، وناقشتُ في تضعيفه لسند أحدى الرّوايات المُضعَّفة وبيّنت عدم تماميّة تضعيفه فلا أعيد، ولكنّي سأتحدّث اليوم عن ذيل الرّوايتين الّلتين صحّح الخوئي أسانيدهما؛ لأوضّح من خلال ذلك دلالتهما الحتميّة والجّزميّة على جهل زرارة باسم الإمام الّذي يلي الصّادق “ع”، وإنّ ما رواه المرحوم الصّدوق عن الرّضا “ع” من دعوى علم زرارة بإمامة الكاظم “ع” وإنّ إرسال ابنه إلى المدينة كان لأخذ الضّوء الأخضر لنشرها فقط هو أمرٌ غير قابل للتّصديق والتّعقّل.
إيضاح ذلك: لقد أشارت الرّوايتان الصّحيحتان إلى إنّ الإمام الكاظم “ع” حينما نبا إلى مسامعه خبر إرسال زرارة أبنه عبيد لتحرّي أمر الإمام بعد وفاة أبيه “ع” وإنّ زرارة مات قبل عودة ابنه لإخباره بحقيقة الأمر، فقال “ع” حين ذاك: «والله كان زرارة مهاجراً إلى الله تعالى»، وجاء في الرّواية الثّانية قوله “ع”: «إني لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال الله تعالى: “ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثمّ يُدركه الموت فقد وقع أجره على الله”». [رجال الكشّي: ج1، ص372ـ373].
#وقد علّق الخوئي على مجموع روايات حيرة زرارة قائلاً: «هذه الروايات لا تدلّ على وهن ومهانة في زرارة؛ لأنّ الواجب على كلّ مكلّف أن يعرف إمام زمانه [فقط] ولا يجب عليه معرفة الإمام من بعده، وإذا توفي إمام زمانه فالواجب عليه الفحص عن الإمام، فإذا مات في زمان الفحص فهو معذور في أمره ويكفيه الالتزام بإمامة من عيّنه الله تعالى وإن لم يعرفه بشخصه، وعلى ذلك فلا حرج على زرارة؛ حيث كان يعرف إمام زمانه وهو الصادق “ع”، ولم يكن يجب عليه معرفة الإمام من بعده في زمانه، فلما توفّي الصادق “ع”، قام بالفحص فأدركه الموت مهاجراً إلى الله ورسوله، وقد ورد في ذلك عدّة روايات، منها: ما رواه محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله [الصّادق] “ع” إذا حدث على الإمام حدث كيف يُصنع؟ قال “ع”: أين قول الله عز و جل: “فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفّقهوا في الدّين ولينذروا قومهم إلى رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون”… هم في عذر ما داموا في الطلب، وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم”. وقد تقدّم في الروايتين الأخيرتين الصحيحتين من الكشي: أنّ زرارة كان مهاجراً إلى الله تعالى». [معجم رجال الحديث: ج8، ص240].
#ولي في المقام بعض التّعليقات:
#الأوّل: لا خلاف بيننا في وثاقة زرارة وكونه من خُلّص أصحاب الباقر والصّادق “ع”، وإنّ هذه الأخبار لا دلالة فيها على القدح به أو ذمّه من دون شكّ وريب، وعليه: فهذه الزّاوية من البحث غير منظورة لنا بالمرّة كما أسلفنا، وإنّما نهدف التّركيز على زاوية أخرى خلاصتها: ما هي الأسباب الّتي تجعل فقيهاً كبيراً مُخلصاً ومُقرّباً وملتصقاً بالباقر والصّادق “ع” يجهل اسم الإمام الّذي يليهما؟!
#الثّاني: كنت أتمنّى على المرحوم الخوئي أن لا يقتصر في نقله على رواية يعقوب بن شعيب الآنفة الذّكر؛ ليجعل زرارة من تطبيقاتها وكأنّ هذه الرّواية تتحدّث عن أمر فرضي لا واقع له أراد يعقوب بن شعيب الاستفسار عنه، بل كان عليه أن يذكر صحيحة محمد بن مسلم الّتي نقلناها في مقالات سابقة حين التّعرّض لحيرته، والّتي كانت تتحدّث عن مشكلة عميقة أحسّها خُلّص أصحاب الصّادق “ع” قبيل رحيله وأثناء مرضه، وهي عدم تصريحه باسم الإمام الّذي يليه لأحد منهم، وهذا نصّها والّذي جاء في الكليني والصّدوق بإسناد صحيح لا غبار عليه عندهم: «قلت لأبي عبد الله [الصادق] “ع” ـ والكلام لمحمد بن مسلم ـ : أصلحك الله، بلغنا شكواك [مرضك] وأشفقنا، فلو أعلمتنا أو علّمتنا من؟ فقال “ع”: إن علياً “ع” كان عالماً، والعلم يتوارث، فلا يهلك عالم إلا بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء الله»، قلت: أ فيسع الناس إذا مات العالم ألا يعرفوا الذي بعده؟ فقال “ع”: أما أهل هذه البلدة فلا ـ يعني المدينة ـ وأما غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم؛ إنّ الله يقول: «وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون… قلت: أ رأيت من مات في ذلك؟ فقال “ع”: هو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله… » [الكافي: ج1، ص379ـ380؛ علل الشّرائع: ج2، ص591].
#الثّالث: الواضح والجّلي إنّ تنصيص الكاظم “ع” في حديثه عن مصير زرارة بن أعين على كونه مهاجراً إلى الله أو هو من مصاديق من خرج من بيته مهاجراً…إلخ يدلّ دلالة جزميّة بقرينة صحيحة محمد بن مسلم الآنفة إنّ زرارة كان جاهلاً بشخص إمامة الكاظم “ع” وربّما أكثر من ذلك كما سنوضح، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نتعقّل الخبر الّذي رواه المرحوم الصّدوق عن الرّضا “ع” من دعوى إنّ زرارة كان يعلم بإمامة الكاظم “ع” لكنّه أرسل ابنه عبيداً لطلب الضّوء الأخضر في نشر ذلك أمام المحيطين به؟! فهذه الرّواية من أوضح مصاديق الأدلّة بعد الوقوع، وسوف نقدّم الشّواهد الكافية بعد ذلك لإثبات عدم معقوليّتها فتفطّن.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...