#في أيّام ما يُصطلح عليه بعصر الغيبة الصّغرى وما بعدها بقليل عانت الشّيعة معاناة وحيرة حقيقيّة في التّصديق بفكرة الغيبة واستمراريّة الإمامة بصيغتها الشّيعيّة الأثني عشريّة المتداولة؛ وذلك لعدم وجود ما يعزّز هذه الفكرة عمليّاً وخارجيّاً وتاريخيّاً في أذهانهم؛ الأمر الّذي حدا بمحدّثي تلك الفترة إلى بذل جهود حديثيّة وكلاميّة جبّارة من أجل تعزيز مفردات هذه المفاهيم في أذهانهم كما نوّهنا لذلك في سياق ما اصطلحنا عليه بأدلّة ما بعد الوقوع.
#ولكي نضع القارئ الكريم في السّياق التّاريخي لهذه المعاناة والحيرة العقديّة الّتي عاشتها الشّيعة في تلك الأيّام ومقدار ما بذله المحدّثون الشّيعة من عناء لإقناع بسطاء الشّيعة بما يريدون في هذا الخصوص… دعونا ننقل لكم نصوصاً من توطئات مهمّات الكتب الحديثيّة ذات الطّابع الكلامي والّتي كُتبت في تلك الأيّام لغرض تثبت فكرة الإمامة والمهدويّة والغيبة بصيغتها الشّيعيّة المتداولة، نمارس ذلك بغية اكتشاف الحقيقة الّتي طالما أخفيت عنّا بسبب الفلاتر المذهبيّة والسياسيّة، وسنقصر حديثنا على أهمّ أربعة كتب كُتبت لهذا الغرض في القرن الرّابع الهجري والّذي هو عصر التأسيس والتأصيل والتّسويق للمقولات الشّيعيّة:
1ـ ابن بابويه والد الصّدوق المتوفّى: 329هـ” في كتابه: “الإمامة والتّبصرة من الحيرة”: «… ورأيت كثيراً ممّن صحّ عقده، وثبتت على دين الله وطأته، وظهرت في الله خشيته، قد أحادته الغيبة، وطال عليه الأمد، حتى دخلته الوحشة، وأفكرته الأخبار المختلفة، والآثار الواردة، فجمعتُ أخباراً تكشف الحيرة وتجسم النعمة وتُنبئ عن العدد وتؤنس من وحشة طول الأمد…» [الإمامة والتّبصرة من الحيرة: ص9].
2ـ النّعماني المتوفّى في سنة: “360هـ” [والّذي كان الوزير أبو القاسم المغربي نجل بنته فاطمة] في كتابة: “الغيبة”: «أما بعد فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيّع المنتمية إلى نبيها محمد وآله “ص” ممّن يقول بالإمامة التي جعلها الله برحمته دين الحقّ ولسان الصدق… قد تفرّقت كلمها وتشعبّت مذاهبها واستهانت بفرائض الله عزّ وجلّ، وحنّت إلى محارم الله تعالى، فطار بعضها علوّاً وانخفض بعضها تقصيراً، وشكّوا جميعاً إلّا القليل في إمام زمانهم وولي أمرهم وحجة ربهم التي اختارها بعلمه… فلم يزل الشكّ والارتياب قادحين في قلوبهم…حتّى أدّاهم ذلك إلى التّيه والحيرة والعمى والضّلالة، ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين الله، وتمسّكوا بحبل الله، ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم، وتحقّق فيهم وصف الفرقة الثابتة على الحقّ التي لا تزعزعها الرياح، ولا يضرّها الفتن، ولا يغرّها لمع السراب، ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم… [!!]». [الغيبة: ص21 فما بعد].
3ـ المحدّث الصّدوق المتوفّى سنة: “381هـ” في كتابه الشّهير: “كمال الدّين وتمام النّعمة”: «إنّ الّذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا أنّي لمّا قضيت وطري من زيارة علي بن موسى الرضا “ع” رجعت إلى نيسابور وأقمت بها فوجدت أكثر المختلفين إليّ من الشيعة قد حيّرتهم الغيبة ودخلت عليهم في أمر القائم “ع” الشبهة، وعدلوا عن طريق التسليم إلى الآراء والمقاييس، فجعلت أبذل مجهودي في إرشادهم إلى الحقّ وردّهم إلى الصواب؛ بالأخبار الواردة في ذلك عن النبي والأئمة “ع”…» [كمال الدّين وتمام النّعمة، الصّدوق: ص3].
4ـ الخزّاز القمّي ابن القرن الرّابع أيضاً في كتابه: “كفاية الأثر في النّصوص على الأئمة الأثني عشر”: «أما بعد فإنّ الّذي دعاني إلى جمع هذه الأخبار عن الصحابة والعترة الأخيار في النصوص على الأئمّة الأبرار أنّي وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم متحيرين في ذلك ومتعجّزين، يشكون فرط اعتراض الشبهة عليهم، وزمرات المعتزلة تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه، حتى آل الأمر بهم إلى أن جحدوا أمر النصوص عليهم من جهة لا يقطع بمثلها العذر، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر ولا عن أخبار العترة…». [كفاية الأثر: ص7].
#أقول: إذا كانت فكرة الإمامة بصيغتها الشّيعيّة المتداولة وعرضها العريض واضحة وجليّة وكان اسم أوّلهم وأوسطهم وقائمهم ومهديّهم ظاهراً ومعروفاً ولو بين خُلّص أصحابهم بعد انتهاء مرحلة حضورهم “ع” فما بال أكثريّة الشّيعة حائرة ضالّة تائهة قد حادوا عن الحقّ والحقيقة الّتي أوضحتها لهم النّصوص الصّحيحة والصّريحة الدّالة عليها كما يقول أصحاب المصنّفات أعلاه لكي يضطرّوا لتجييش الجيوش الحديثيّة والكلاميّة من أجل إرجاعهم إلى ذلك؟!
#إن قلت: إنّ تفرّق النّاس عن الحقّ والحقيقة سنّة طبيعيّة في كلّ الأجيال والحقب الزّمنيّة، فها هم صحابة رسول الله “ص” تركوا الحقّ وانصاعوا إلى غير أهله فور رحيله من الدنيا، فليكن هذا مثل ذاك؟!
#قلت: إنّ افتراض المشابهة بين افتراق كبار أصحاب الرّسول “ص” بعده وافتراق كبار أصحاب الأئمّة المتوسّطين والمتأخّرين “ع” بعد رحيلهم من الأخطاء الفادحة جدّاً؛ وذلك: لأنّ الرّسول “ص” أوضح وعيّن لعموم المسلمين اسم وشخص الخليفة من بعده بما لا مزيد عليه حسب القراءة الشّيعيّة المتداولة ومع هذا خالفه كبار أصحابه، بينما لم يوضح الأئمّة المؤسّسون “ع” اسم خليفتهم ولم يعيّنوا الإمام الّذي يليهم بشهادة حيرة كبار وخُلّص أصحابهم كما وثّقنا ذلك مفصّلاً فيما تقدّم، فما يدلّ عليه الافتراق الأوّل غير ما يدلّ عليه الافتراق الثّاني، وأعلم إنّ قليلاً من التّدبّر وترك الأفكار التّسكينيّة سيوصلك إلى الحقيقة فتأمّل إن كنت من أهله.