#المعروف والمشهور والدّائر على الألسن إنّ قصيدة: “كربلاء لا زلت كرباً وبلا…” هي للشّريف الرّضي “359ـ406هـ”، بل يسعى بعض الخطباء إلى ذكر تفاصيل دقيقة لنظمها وإنشادها من قبيل: إنّ الشّريف الرّضي أبتدأ بإنشائها وهو يهرول من بيته في الكاظميّة لتكتمل أبياتها في الحائر الحسيني!! لكنّ يبدو إنّ خبراء المخطوطات والشّعر ينفون نسبة هذه القصيدة له أو يشكّكون في انتسابها له أصلاً ويدّعون إنّها منحولة عليه، وذلك للأسباب التّالية:
#الأوّل: عدم وجود القصيدة في الدّيوان الأصلي للشّريف الرّضي.
#الثّاني: عدم تشابهها مع المذاق والمفردات الشّعريّة للشّريف الرّضي.
#الثّالث: عدم انسجامها مع المسار العقائدي للشّريف الرّضي.
#أمّا إجمال شرح السّبب الأوّل: فقد كانت قصائد الشّريف الرّضي تُجمع في أيّام حياته ومن الرّاجح أنه هو من قام بذلك؛ لأن كثيراً من قصائده احتوت على التّاريخ الّذي أنشدت فيه والمناسبة الّتي تطلّبتها، وكان ديوانه معروفاً يطلبه الأشراف والوزراء لاستنساخه، وبعد وفاته اهتمّ ابنه عدنان بشعره؛ فأضاف لديوانه أوراقاً قليلة من الشّعر الّذي لم يضف إلى أصل الدّيوان المجموع في حياة والده، ثم جاء أحد أساتذة العلوم العربيّة في حينها والمعروف بأبي حكيم الخبري المتوفّى سنة: “476هـ” فأخذ هذه الأوراق الّتي أضافها الأبن وأضاف إليها القطع الشّعريّة والأبيات الّتي وجدها، وصنع من ذلك كلّه باباً أطلق عليه باب الزّيادات، وهو باب يضمّ خمسة وثلاثين وتسعمائة بيت، معظمها أبيات مفردة ومقطوعات ذات بيتين أو ثلاثة أو أربعة، وفيه أيضاً قصائد منها: القصيدة المكوّنة من أثنين وستّين بيتاً في رثاء الحسين بن علي “ع” والّتي مطلعها: “كربلاء لا زلت كرباً وبلاء”، وهذا يعني إنّ القصيدة هي من زيادات أبي حكيم الخبري ولا توجد في الدّيوان الأصلي الّذي كان في حياة الشّريف الرّضي، ولا يوجد أيّ مبرّر معقول للشّريف الرّضي لإهمالها وعدم تضمينها إلى ديوانه الأصلي.
#وأمّا إجمال شرح السّبب الثّاني: حين مراجعة القصائد الّتي أنشدها الرّضي في رثاء الحسين بن علي “ع” نجدها أربع قصائد فقط، ألقى كلّ واحدة منها في عاشوراء لسنوات: “377؛ 387؛ 391؛ 395هـ”؛ وينصّ الخبراء في فنّ الشّعر والأدب إنّ الرّضي يسير في هذه القصائد الأربع نهجاً يكاد يكون واحداً؛ فمطلعها جميعاً يعبّر عن همّ يخالجه من عشق أو حزن أو غيرهما، ثم ينفضه من نفسه بذكر فاجعة الطّف الّتي هي فوق كلّ الهموم… أمّا مطلع قصيدة كربلاء فهو مختلف تماماً عن مطلع قصائده تلك فضلاً عن أبياتها الأخرى، وهنا يقرّر أحد المحقّقين بعد أن عرض للمعاني الّتي وردت في قصائد الشّريف الرّضي العاشوريّة وقصيدة كربلاء إلى عدم وجود نسبة بين هذه القصيدة وتلك القصائد الأربع؛ فإن «هذه الشّكاة الّتي تنضخ بها القصيدة الأخيرة، والاستغاثة برسول الله “ص”، وخصومته لبني أميّة في الدّار الآخرة، ووقوفه موقف المظلوم، وتعداد الأئمّة، واعتبارهم الشّافين من العمى والشّفعاء مع الرّسول يوم القيامة، كلّ هذا لم نعهده من الرّضي في رثائه لأبي عبد الله الحسين، وإنّما عهدناه ثائراً تلمع نصول السّيوف في شعره، وتتطاول لهاذم الأسنّة، مهدّداً بيوم يُجرّد فيه الخيل للوغى، لا بالعقاب والحساب يوم القيامة» [ديوان الشّريف الرّضي، تحقيق عبد الفتّاح الحلو: ص171].
#وأمّا إجمال السّبب الثّالث: هناك كلام كثير حول عقيدة الشّريف الرّضي؛ فالشّيعة الأثنا عشريّة يصرّون على كونه منهم بينما زيديّته تمانع من ذلك، لكن يبدو إنّ كونه زيديّاً أو غير متمذهب بغير أصل حبّ أهل البيت “ع” هو الرّاجح لمجموعة من الأدلّة والشّواهد لا مجال لذكرها هنا، أمّا أثنا عشريّته فيستند فيها إلى دليلين رئيسيّين تقريباً:
#الأوّل: ما ذكره في مقدّمة كتابه خصائص الأئمّة من تنصيص على الأثني عشريّة.
#الثّاني: ما ذكره من عدد الأئمّة في أبيات قصيدة كربلاء محلّ البحث.
وقد ردّ الأوّل بكون كتاب الخصائص قد كتبه الرّضي في عنفوان شبابه وقد عدل عن إكماله، وهو أمر يشير إلى احتمال تراجعه وعدوله عن هذه العقيدة بعد النّضج، وردّ الثّاني بكون قصيدة كربلاء منحولة عليه ولا توجد في ديوانه الأصلي. وتفصيل البحث في زيديّة أو أثني عشريّة الرّضي يتطلّب وقتاً آخر يتضمّن عرضاً لبعض الأبيات الّتي ادّعي فيها موافقته أو مخالفته وإشارة إلى ما نقله ابن عنبة في زيديّته أيضاً والوقوف على بعض آراءه الفقهيّة المتطابقة معهم.
#وخلاصة القول هو: ما قرّره الخبير والمختصّ بشعر الشّريف الرّضي وحياته أعني الدّكتور المصري: عبد الفتّاح محمد الحلو “1937ـ1994م”، والّذي حاز على الدّكتوراه برتبة الشّرف الأولى في حياة الشّريف الرّضي ودراسة شعره عام: “1974م”؛ حيث قال بعد استعراض الأدلّة ومناقشتها: «وظنّي إنّ هذه القصيدة مصنوعة ومنسوبة للشّريف الرّضي، أراد صاحبها لها الذّيوع والانتشار في محافل عاشوراء، فاجتهد ما وسعه الاجتهاد في أن يضع عليها ميسم الرّضي، وخانه التّوفيق في بناء بعض أبياتها، كما فضحه حشو القصيدة بعقائد لم يمرن عليها الرّضي في شعره، ولم ينضح بها قريضه» [ديوان الشّريف الرّضي، مصدر سابق: ص172].
#وأخيراً أجد من الّلازم التّذكير بنقطتين وخاتمة:
#الأولى: ممّا تقدّم يتّضح الحال فيما ذكره السيّد جعفر مرتضى العاملي من مناقشة مذهبيّة غير تخصّصية للدّكتور عبد الفتّاح الحلو الخبير في الشّعر ومفرداته؛ والصّمت المطلق عن السّبب الأوّل الّذي ذكرناه والّذي يقرّر عدم وجود القصيدة في ديوان الشّريف الأصلي [أكذوبتان حول الشّريف الرّضي: ص16ـ20].
#الثّانية: وممّا تقدّم يتّضح الحال أيضاً فيما ذكره السّيد محمد رضا السّيستاني في بحوثه الفقهيّة من الاستناد إلى قصيدة كربلاء لإثبات أثني عشريّة الرّضي، مدّعياً إنّ نسبة الزّيديّة له ممّا لا ينبغي الشّك في بطلانها، وإنّ كونه من «الإماميّة الأثني عشريّة في غاية الوضوح، وقد ذكر الأئمّة إلى الحجّة القائم “ع” في بعض شعره…» وأحال إلى قصيدة كربلاء [بحوث في شرح مناسك الحجّ: ج1، ص218]؛ فبعد أن بان عدم صحّة انتساب هذه القصيدة للرّضي تسقط دليليّة هذا الدّليل من رأس.
#أمّا الخاتمة: إنّ الغرض من ذكر هذه البحوث ليس الابتعاد عن إنشاد قصيدة كربلاء على المنابر؛ فهذا ما لا ندعو إليه على الإطلاق، ولكنّا نريد أن نوضّح للمتابعين الكرام على إنّ المشهورات لا قيمة لها أمام البحث العلمي الجّاد، ولا يغرّنكم قول فلان أو فلان في نسبة هذا الأمر وتقرير ذاك؛ فمقولة ربّ مشهور لا أصل له هي المقولة الّتي ينبغي أن تسود في واقعنا الفقهي والعقائدي والمنبري الشّيعي ـ فضلاً عن غيره ـ بغية الوصول إلى الحقيقة من دون نظّارت مذهبيّة مقيتة، ومن الله نرجو التّوفيق.