#لم تكن في عصر النّبي “ص” ولا في عصر ما يُصطلح عليها بالخلافة الرّاشدة ولا عصر الحكومات الّتي تلتها حتّى القرن الثّالث الهجري ظاهرة إسلاميّة ـ وركّز كثيراً على هذه الأوصاف ـ تُسمّى بظاهرة البناء على القبور، وإنّما هي ظاهرة ـ وإن كانت لها جذور عربيّة جاهليّة ـ مستوردة من حضارات أخرى، وعلى هذا الأساس: فحينما تطالع زيارة في التّراث الإثني عشريّ أو رواية تروى عن الصّادق “ع” أو عن معاصريه تتحدّث عن قبر الحسين “ع” أو العبّاس أو عليّ الأكبر أو الشّهداء الآخرين وتتضمّن مفردات من قبيل: “إذا وصلت إلى الباب؛ فإذا رأيت القبّة؛ ثمّ تدخل القبّة الشّريفة؛ حتّى إذا كنت على باب الحائر؛ الباب الّذي يلي المشرق؛ الباب الّذي عند رجل عليّ بن الحسين؛ خارج القبّة؛ استجابة الدّعاء تحت قبّته؛ وهو على شطّ الفرات بحذاء الحائر؛ فقف على باب السّقيفة…” فعليك أن تعلم إنّه نصّ ولد لاحقاً؛ إذ كلّ هذه الأشياء لم توجد إلّا في فترة لاحقة؛ #وذلك:
#لأنّ أقدم ضريح في الإسلام أقيمت عليه قبّة يرجع إلى القرن الثّالث الهجري هو ضريح المعتصم العبّاسي المعروف بالقبّة الصّليبيّة والّذي بُني بتاريخ: “284هـ”، ويليه في التّاريخ: ضريح إسماعيل السّاماني في سنة: “296هـ”، ومن ثمّ ضريح عليّ بن أبي طالب “ع” في النّجف الّذي أشاده الحمدانيّون سنة: “317هـ” كما يقول بعض المختصّين، والظّاهر إنّ بناء قبر الحسين بن عليّ “ع” المتلاءم مع مفردات هذه الزّيارات قد بدأ في القرن الرّابع الهجري وما بعده في أيّام الدّولة البويهيّة والّتي وفّرت مناخاً آمناً لمحدّثي الشّيعة في التأليف والحديث، ومن الطّبيعي أن يتأثّر الرّواة بهذا البناء الجديد في صياغة الزّيارات وآدابها، كما إنّ ما ورد من هدم المتوكّل قبر الحسين بن عليّ “ع” والدّور المحيطة به لا يُفهم من ذلك إنّ له حائراً وأبواباً وضريحاً وقبّة كما قد يتوهّم؛ فإنّ أقصى ما يمكن فهمه من ذلك هو وجود قبر مشخّص مرتفع على طريق القبور المعاصرة في وادي السّلام مثلاً، ولا يصحّ أيضاً: ما نُقل من دعوى تخريب هارون الرّشيد لقبره، وهي نصوص يكذّبها الواقع التّاريخي آنف الذّكر.
#والمؤسف: إنّ جملة من الباحثين الإثني عشريّة الّذين سعوا لكتابة تاريخ بناء مرقد عليّ ونجله الحسين “ع” اعتمدوا لتقرير الحقيقة على هذه المرويّات محلّ البحث نفسها بعد افتراض صحّتها خطأً انطلاقاً من موازين رجاليّة معيّنة، مع إنّنا قلنا مراراً ونكرّر: إنّ أيّ رواية تطرح مطلباً يخالف الواقع التّاريخي المسلّم فينبغي أن يُعرض عنها حتّى وإن صحّ أسنادها؛ وذلك لكونها وليدة الّلحظة الزّمانيّة الّتي طُرحت فيها، إمّا كلّها أو بعض فقراتها، فتأمّل كثيراً لتعرف إنّ نسبة مئويّة كبيرة جدّاً من الأدعية والزّيارات المرويّة في الكتب المختصّة قد ولدت لاحقاً، وبذلك تسقط عن الاعتبار قبل أن تصل النّوبة للبحث عن كاشفيّتها عن الاستحباب أو رجاء المطلوبيّة أو عن وقائع تاريخيّة للزّمن الّذي تُشير إليه، والله من وراء القصد.
#ميثاق_العسر