#يلجأ الأصوليّون الشّيعة في مقام رفع بعض أنواع التّعارض المتراءى بين النّصوص الرّوائيّة إلى مجموعة من القواعد تُعرف عندهم بالمرجّحات الدّلاليّة، وإذا ما أردنا أن نقرّب هذه القواعد بالخصوص إلى ذهن المتابعين فسنورد مثالاً فقهيّاً ونطبّق عليه هذه القواعد انسياقاً مع المبنى المختار لجملة كبيرة من الفقهاء، ونعود بعد ذلك لتسجيل ملاحظاتنا، علماً إنّ المثال […]
#يلجأ الأصوليّون الشّيعة في مقام رفع بعض أنواع التّعارض المتراءى بين النّصوص الرّوائيّة إلى مجموعة من القواعد تُعرف عندهم بالمرجّحات الدّلاليّة، وإذا ما أردنا أن نقرّب هذه القواعد بالخصوص إلى ذهن المتابعين فسنورد مثالاً فقهيّاً ونطبّق عليه هذه القواعد انسياقاً مع المبنى المختار لجملة كبيرة من الفقهاء، ونعود بعد ذلك لتسجيل ملاحظاتنا، علماً إنّ المثال وإن كان واقعيّاً لكنّه لتقريب الفكرة فقط؛ لذا وجب التّنويه.
#حينما يأتي خبران صحيحان عن الأئمّة “ع” ينصّ أحدهما على إنّ الزّكاة لا تجب إلّا في تسعة أشياء فقط هي: “الإبل والبقر والغنم والحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والذّهب والفضّة المسكوكتين” ويُعفى عمّا سوى ذلك، وينصّ الآخر على إنّ الزّكاة تجب في موارد أخرى تزيد على التّسعة كالأرز والعدس وبعض البقول مثلاً، ففي مثل هذه الحالة يجد الفقيه تعارضاً بين هذين الخبرين للوهلة الأولى؛ فهل الزّكاة تختصّ بالموارد التّسعة أم تجب في غيرها أيضاً؟!
#يجيب مشهور الفقهاء: لمّا كان المتكلّم حكيماً عاقلاً عالماً فلا مجال لافتراض التّناقض في كلامه، وعليه: فحيث إنّ الخبر الأوّل صريح في نفي الوجوب عمّا زاد عن التّسعة وإنّ الخبر الثّاني ظاهر في إثبات الوجوب على ما زاد على التّسعة فنحمل الصّريح على الظّاهر فينتج الاستحباب، ولهذا أفتوا باستحباب الزكاة فيما زاد على التّسعة وقصروا الوجوب على تسعة موارد فقط دون غيرها.
#وبغضّ الطّرف عن عرفيّة أو حقّانيّة هذا الجّمع في خصوص هذا المثال استناداً إلى هذه الفذلكة الأصوليّة وعدمها، وبغضّ الطّرف أيضاً عن المناقشات الّتي طرحها بعض الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين لفذلكة هذا الجّمع في خصوص هذا المثال… أقول بغضّ الطّرف عن جميع ذلك؛ إذ إنّ ذلك بحاجة إلى بسط للحديث في موضع آخر، ولكنّ ما يهمّنا الإشارة إليه هو وضع القارئ الكريم في سياق التّحفّظ الأساس الّذي نسجلّه على أمثال هذه الجّموع الأصوليّة الّتي يُقدم عليها الفقهاء للتّعامل مع روايات ومرويّات الأئمّة “ع”؛ وذلك لأنّ المصير إلى عموم هذه المحامل ـ دلاليّة كانت أو سنديّة ـ على أساس هذه الفذلكات لا يخلو من نظر؛ بداهة:
#أوّلاً: إنّ فرضيّة التّعامل مع نصوص الأئمّة الإثني عشر “ع” على إنّها صادرة من متكلّم واحد شخصيّ فرضيّة ترتكز على مقولة كلاميّة يكذّبها الواقع العملي للأئمّة “ع”، وإنّ ما ورد في بعض الأخبار من الدّعوة للتّعامل مع نصوصهم هذه المعاملة لا نقبله أيضاً، ونراه محصوراً في دوائر وعدد خاصّ ولا يمكن الحكم بتعميمها، وهذا معنى ما أكّدناه مراراً من إنّ المقولات الكلاميّة ـ ومنها الإمامة بنسختها الإثني عشريّة وعرضها العريض ـ هي السّبب الأساس وراء ما نعانيه من مشاكل معرفيّة على جميع المستويات؛ فإنّ هذه المقولة الأصوليّة الّتي حملها المنشور لم يكن لها وجود لولا اتّكائها على تلك المقولة الكلاميّة الخاطئة الّتي سنفصّل الحديث عنها لاحقاً.
#وثانياً: إنّ فرضيّة كون الروايات التي تقدّم التّمثيل بها وأضرابها هي بمنزلة كلامٍ واحدٍ منعزلٍ عن الظروف والشروط والزمان والمكان وبالتالي الحكم بتناقضها وتضادّها غير تامّة؛ بل إن النهج العرفي في المحاورات ـ خصوصاً مع لحاظ حال المتكلّم وحكمته وظروفه وشروطه ـ لا يرى التدافع بين أمثال هذه الروايات، ويرى ضرورة تفحّص الوضع الذي صدرت فيه، ويضع كل واحدة منها في إطار ظروفها والمواضعات الّتي ولّدتها، وهو نهج عام في عموم المحاورات العرفية لا يمكن إغفاله أو غضّ النظر عنه، وقد تعامل المشرّع على أساس عرفيّته وتكلّم وأسَّس على أساسها للعديد من أحكامه وبياناته، ولابدّ للفقيه أن يكتشف هذه الطريقة من المحاورات قبل اللجوء إلى أيّ وجه من وجوه الجمع، سواء الدلالية منها أو السندية، والله من وراء القصد.