نقلنا في الحلقات السّابقة: رسالة اُدّعي إنّ العسكري “ع” أرسلها إلى ابن بابِويه والد الصّدوق يصفه فيها بأوصاف شيخي وفقيهي ويدعو له الله أن يرزقه أولاداً صالحين…إلخ، وقد وصفنا الرّسالة حينها بالمكذوبة، ووعدنا الإشارة إلى شواهد وقرائن ذلك بعد أن نستوفي عرض السّيناريوهات المطروحة في ولادة الصّدوق بدعاء الحجّة “ع”؛ لارتباطها العضوي بمحلّ البحث، وها قد حان الوقت لذكر بعضها ونترك البقيّة إلى فرصة أخرى:
#الأوّل: أورد المحدّث البحراني المتوفّى سنة: “1186هـ هذه الرّسالة في كتابه لؤلؤة البحرين ناسباً إيّاها إلى كتاب الاحتجاج للطّبرسي وهو من علماء القرن السّادس حسب الظّاهر، لكن حين مراجعة النّسخ المطبوعة والمخطوطة المتداولة لهذا الكتاب فلا نجد ذكراً وأثراً لهذه الرّسالة كما أكّد ذلك الأغا برزك الطّهراني في حاشيته على مستدرك أستاذه النّوري، نعم أورده بهذه الصّيغة مُرسلاً صاحب مجالس المؤمنين المتوفّى سنة: “1019هـ” دون أن ينسبه إلى كتاب الاحتجاج ونقله بعده من تبعه من الأعلام، كما جاء مختصراً جدّاً ودون عبارات شيخي وفقيهي والدّعاء له بالأولاد الصّالحين… في مناقب آل أبي طالب لتلميذ صاحب الاحتجاج أعني: ابن شهر آشوب المتوفّى سنة: “588هـ” ونقله المجلسي عنه أيضاً، وعلى هذا الأساس فلا يمكن الرّكون إلى مصدر معتبر لهذه الرّسالة، وسند ولو ضعيف.
#الثّاني: نصّ علماء الرّجال والتّراجم على إنّ والد الصّدوق قد توفّي سنة: “329هـ” أي في أواخر مرحلة ما يُصطلح عليه بعصر الغيبة الصّغرى، لكنّهم لم يذكروا تاريخ ولادته، وحين مراجعة شيوخه الّذين روى عنهم نجد إنّ تاريخ وفياتهم يتراوح ما بين سنة: “290هـ” نظير محمد بن الحسن الصّفار، إلى ما بعد سنة: “307هـ” نظير علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، وروايته عن هذه الطّبقة من الرّجال تكشف بوضوح إمّا عن عدم كونه حيّاً في سنوات إمامة العسكري “ع”، وإمّا إنّه كان صبيّاً أو غلاماً لم يكن بمقام أن يعبّر عنه بالشّيخ والفقيه من شخص الإمام العسكري “ع”.
#الثّالث: لم تثبت الرواية المباشرة لوالد الصّدوق عن كبار المحدّثين الشّيعة في حقبة الجّواد والهادي والعسكري “ع” مع إنّ جلّهم كانوا في مدينة قم أمثال أحمد بن إسحاق الأشعري وأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري وأضرابهم؛ فلو كان والد الصّدوق بعمر بحيث يتمكّن من الرّواية عن أحدهم لسُجّلت له رواية واحدة مباشرة عنهم، وهذا ما لم يحصل حسب استقراء بعض الباحثين والعهدة عليه في تقصّي ذلك.
#الرّابع: حتّى لو آمنا إنّ الرّسالة كانت في آخر سنة من حياة العسكري “ع” أي: “260هـ”، وإنّ عمر والد الصّدوق كان حينها ثلاثين سنة وهذا تنزّل غير واقعي أيضاً، لكنّا لا نصدّق أن يعجز هذا الرّجل عن الإنجاب طيلة خمسين إلى ستّين سنة من حياته الزّوجيّة حسب الوضع الطّبيعي ويُنجب وهو في عمر السّادسة والسّبعين وما بعدها ثلاثة أولاد، ومع جميع هذا لم تُسجّل كتب التّاريخ والتّراجم هذه الكرامة الّتي طلبها العسكري “ع” من الله له قبل خمسة وأربعين عاماً حسب الفرض، ولم تُشتهر ويكثر رواتها وتتناقلها الألسن، سوى قصّة ولادة ولده الصّدوق بدعاء الحجّة “ع” الّتي تفرّد محمد بن عليّ الأسود بروايتها ونشرها، وهو أمر آخر ليس له علاقة بأصل فرضيّة طول عمر والده وعجزه عن الإنجاب كما سنشير إلى ذلك في تأمّلاتنا حول ولادة الصّدوق بدعاء الحجّة “ع” لاحقاً.
#وأخيراً: إنّ أمثال هذه الرّسائل والتّوقيعات تأتي في سياق ما نصطلح عليه بأدلّة المهدويّة الشّيعيّة بعد الوقوع، ومن يتفحّصها وهو يمتلك أدنى مقوّمات البحث العلمي سيجزم بكذبها ووضعها، ولكن المؤسف إنّ المذهبيّة بعنوانها العامّ هي الطّاغية على بحوثنا ومنابرنا المعاصرة، وكأنّ الاعتراف بخطأ هذه الأمور وعدم الالتزام بلوازمها والابتعاد عن تداولها يعتبر هتكاً لعنوان المذهب وحقّانيّته؛ لذا يفضّل جملة من المحقّقين الصّمت.