تأمّلات في الفقرة الأخيرة من دعاء عرفة!!

#ثمّة خطأ شائع بين بعض الطّبقات الحوزويّة مفاده: إنّ علوّ مضمون الرّواية أو الدّعاء أو الزيارة كافٍ في التّصديق بنسبته إلى الإمام سواء وردت في الكتب المعتبرة أو لم يكن سندها نقيّاً، بل وحتّى لو كانت متصادمة مع محكمات القرآن والسّنة الصّحيحة، ويركنون في تقويم علوّ المضمون إلى تربيتهم المذهبيّة والمنبريّة وربّما العرفانيّة، وعلى هذا الأساس شنّوا ويشنّون حملات تسقيط شديدة ومفرطة تجاه أنصار المنهج الرّجالي السّندي، وإنّه سبب إضاعة تراث محمد وآل محمد “ع” هو ما يصطلحون عليه بنجاسات علم الرّجال… إلى غير ذلك من بيانات معروفة ومتداولة.
#سنحاول اليوم أن نذكر شاهداً بسيطاً نوضّح للقّرّاء من خلاله خطأ هذه الفكرة، وإنّ علوّ مضمون الدّعاء أو الزيارة أو الرّواية لا ينتج ضرورة صحّة انتسابها إلى الإمام “ع”، بل هناك بعض الأدعيّة والزّيارات الشّيعيّة الّتي نستدلّ على نسبتها للإمام وصحّتها بعلوّ مضمونها ولا نشكّ في ذلك مذهبيّاً هي في حقيقة الحال ليست كذلك جزماً، وعلينا أن لا نجعل من شمّاعة علوّ المضمون مبرّراً لتسويق بعض الزّيارات والأحاديث القدسية المملوءة بالغلو والارتفاع في واقعنا الشّيعي، ولا بدّ من توخّي الدّقة والحذر في سلوك الآليّات المتّفق عليها بين علماء الدراية والحديث والرّجال #المحايدين في سبيل نسبة هذه الأدعية والزيارات إليهم “ع” فضلاً عن الرّوايات، وإنّ برّر الفقهاء جواز إسنادها وقراءتها من خلال عمليّات النّحت الفقهيّ المتداولة.
#جميعنا قرأ وسمع دعاء عرفة المنسوب إلى الإمام الحسين “ع”، وربّما يحفظ بعضنا أجزاءً من مقطعه الأخير الّذي يبدأ بعبارة: «إلهي أنا الفقير في غناي فكيف لا أكون فقيراً في فقري…»، والّذي فيه الفقرة المشهورة والذّائعة على الألسن: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبّك نصيباً…»، وقد جاءت هذه الزّيادة لأوّل مرّة في كتاب الإقبال للسيّد ابن طاووس وتابعه بعد ذلك جملة من المحدّثين. ومع إغماض الطّرف عن قناعتنا في أصل نسبة هذا الدّعاء إلى الحسين “ع” كما سنوضحها في منشور منفصل إن شاء الله تعالى، لكن هل ستصدّق إذا عرفت إنّ المقطع الأخير والمشهور من هذا الدّعاء هو: لابن عطاء الله السّكندري أو الاسكندراني المتوفّى سنة: “709هـ”، المتصوّف الشّهير صاحب الحكم العطائيّة، والخصم الّلدود لابن تيمية الحرّاني؟!
#إيضاح ذلك: لعلّ أوّل من شكّك بحقّ في نسبة هذا المقطع إلى الإمام “ع” هو المجلسي في بحار الأنوار؛ إذ قرّر إنّ هذه الإضافة لا تلائم سياق أدعيّة المعصومين “ع” بل هي على مذاق الصّوفيّة، ونقل عن بعض الأفاضل ـ حسب تعبيره ـ ميله إلى كونها من إضافات بعض مشايخ الصّوفيّة ومن إلحاقاته وإدخالاته، ليخلص أخيراً إلى القول: إنّ هذه الزيادة إمّا أن تكون قد وردت في بعض الكتب ونقلها ابن طاووس غفلة عن حقيقة الحال، أو تكون هذه الزيادة أدرجها بعض النسّاخ في كتاب الإقبال بعد ذلك، وقد رجّح المجلسي الاحتمال الثّاني؛ لأنّه نصّ على إنّ بعض النّسخ القديمة لكتاب الإقبال خالية من هذه الزّيادة. [بحار الأنوار: ج95، ص227ـ228].
#لكن لا المجلسي ولا الفاضل الّذي نقل عنه استبعاد النّسبة قد ذكرا اسم الصّوفي صاحب المقطع، وحينما نرجع إلى كتاب الحكم العطائيّة للعارف ابن عطاء الله الاسكندراني نجد هذا المقطع بعينه فيه، وقد كتبت شروحات متعدّدة وكثيرة لهذه الحِكم يمكن للباحث مراجعتها، ولكن حيث إنّ تاريخ وفاة الاسكندراني بعد وفاة ابن طاووس بأربعين سنة تقريباً، وإنّ بعض نسخ إقبال الأعمال لابن طاووس خالية من هذه الإضافة، فإنّ احتمال كون ابن طاووس قد أخذها منه أو من غيره مستبعدٌ كما رجّح المجلسي، فالمتعيّن هو الاحتمال الثّاني الّذي ذكره المجلسي، وإنّ بعض النّساخ المتأخّرين هو من قام بهذه الإضافة. [غيث المواهب العليّة في شرح الحكمة العطائيّة، النّفزي: ج1، ص340ـ350، دار الكتب العلميّة].
#والمؤسف إنّ معظم العرفاء في مدرسة أهل البيت “ع” ومتابعي مسلكهم جعلوا مثل هذا النصّ دليلاً على صحّة مدعياتهم ونسبوه إلى الحسين «ع» نسبة جزميّة لا شكّ فيها، بل سوّدوا مئات الصّفحات في شرحه أيضاً، وقالوا إنّ دلالته تغني عن سنده، وقد غفلوا إنّ صاحب هذا النّص هو عارف مثلهم، فمن الطّبيعي أن ينسجم نصّه مع مبانيهم الّتي شيّدوها، والأكثر من جميع هذا غرابة أن نجد إصرار المرحومين الطباطبائي والخميني على نسبة هذه الفقرة من الدّعاء إلى الحسين “ع”، مدّعين إنّ غير المعصوم إذا ما أراد إنشاءها فسوف يرتعش ذقنه!! مع إنّ الواقع خلاف ذلك كما أوضحنا ووثّقنا آنفاً.
#وأخيراً: أتمنّى من أنصار المنهج المضموني أن يعيدوا النّظر في قناعاتهم كثيراً؛ فإنّ توافق مضامين بعض الرّوايات والزّيارات والأدعيّة مع التربية المذهبيّة المعاصرة لا ينتج ضرورة كونها منهم “ع” فكيف إذا كانت مخالفة ومعارضة ومصادمة مع المضمون القرآني، وكم له من نظير في زياراتنا المذهبيّة، فتأمّل.