تأمّلات في استحباب الدّفن في مقبرة النّجف!!

18 أغسطس 2017
953
ميثاق العسر

#جميعنا تتوق نفسه إلى النّجف وجبّانتها؛ ونتمنّى يوماً أن توارى أجسادنا في مقبرتها، بعد نهاية ساعاتنا المقدّرة والمحتومة، ولكن بعيداً عن هذه العواطف والمشاعر المذهبيّة الّتي ساهم الفقهاء والملالي والتّجار والحكومات المحليّة في تكوينها وتكريسها دعونا نتساءل بتجرّد وموضوعيّة: لماذا الدّفن في مقبرة النّجف؟! وهل ورد دليل معتبر يحثّ على ذلك أم هي سيرة مستحدثة […]


#جميعنا تتوق نفسه إلى النّجف وجبّانتها؛ ونتمنّى يوماً أن توارى أجسادنا في مقبرتها، بعد نهاية ساعاتنا المقدّرة والمحتومة، ولكن بعيداً عن هذه العواطف والمشاعر المذهبيّة الّتي ساهم الفقهاء والملالي والتّجار والحكومات المحليّة في تكوينها وتكريسها دعونا نتساءل بتجرّد وموضوعيّة: لماذا الدّفن في مقبرة النّجف؟! وهل ورد دليل معتبر يحثّ على ذلك أم هي سيرة مستحدثة اعتاد عليها الشّيعة جرّاء أسباب نفسيّة واجتماعيّة وسياسيّة وطائفيّة وتجاريّة فركز استحبابها في أذهانهم ونُحتت لها أدلّة بعد الوقوع، فخلّفت ما خلّفت من الآثار السّلبيّة على جميع المستويات يعرفها كلّ من قرأ تاريخ مقبرة النّجف الحديثة والسّياقات الّتي ساهمت في تكوينها؟!
#بدايةً لأبيّن لكم وجهة نظري باختصار: أنا من الدّاعين إلى ضرورة استحداث مقابر منظّمة ومرتّبة لكلّ محافظة ومدينة في العراق؛ بحيث يتمكّن الأهالي والأقرباء والأصدقاء من زيارة فقيدهم باستمرار، وقراءة القرآن وتثويب الثّواب على قبره؛ وربّما يكون هذا هو مفاد الروايات الّتي حثّت على زيارة القبور؛ إذ افترضتها قريبة جدّاً من السكن، وبزيارتها يُذكّر الإنسان بالموت والآخرة، وتبعث فيه روح التّوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، أمّا اليوم فقد أصبح الدّفن في النّجف تجارة مربحة لكثير من الأُسر؛ وفوضى تنظيميّة رهيبة لا نعرف رأسها من ذيلها؛ بلا ضوابط ولا قيود، بل حتّى الشّهداء الّذين دافعوا عن الوطن وأهله يتوجّب عليهم أن يدفعوا أموالاً ولو بشكل غير مباشر من أجل الحصول على مكان لدفنهم فيها، وكأنّ عليّاً “ع” سيترك محبّيه الّذين أكلتهم أسماك القرش وتلاشوا في أعماقها وتقتصر زيارته على القريبين جسمانيّاً منه فقط!!
#أمّا الزّاوية الفقهيّة للبحث فخلاصة ما أودّ بيانه ما يلي: لا يوجد ولا رواية واحدة صريحة، معتبرة وغير معتبرة أيضاً ـ وأرجو التّركيز على هذه القيود بمجموعها ـ تقرّر استحباب الدّفن في النّجف بخصوصها ـ وركّزوا على القيد الأخير ـ فضلاً عن استحباب نقل الميّت إليها على الإطلاق، وكلّ ما اُستند إليه لا يعدو بيانات استحسانيّة ودعاوى تواتر متأخّرة جاءت في سياق ما اصطلحنا عليه بكبرى نحت الأدلّة بعد الوقوع، ولكي نبرهن على مدّعانا سنعمد على ذكر بعض النّقاط:
#الأولى: يبدو إنّ جميع الفقهاء المعاصرين ومتأخّري المتأخّرين الّذين قرّروا استحباب الدّفن في النّجف استندوا إلى ما كتبه المحقّق الحّلّي المتوفّى سنة: “676هـ” في كتابه المعتبر في شرح المختصر حيث قال: «يكره نقل الميت إلى غير بلد موته وعليه العلماء أجمع، وقال علماؤنا خاصّة يجوز نقله إلى مشاهد الأئمة “ع” بل يُستحب… [ودليله]… عمل الأصحاب من زمن الأئمة إلى الآن، وهو مشهور بينهم لا يتناكرونه، ولأنّه يقصد بذلك التمسّك بمن له أهليّة الشفاعة، وهو حسن بين الأحياء توصلاً إلى فوائد الدنيا، فالتوصّل إلى فوائد الآخرة أولى». [المعتبر: ص307].
#الثّانية: حينما رأى المحدّث البحراني اقتصار صاحب مدارك الأحكام وغيره من الفقهاء على نقل عبارة المحقّق الحُلّي الآنفة الذّكر في مقام الاستدلال على هذه الفتوى دون ذكر دليل روائي أفاد قائلاً بحقّ: «وظاهر كلماتهم في هذا المقام يدلّ على عدم وقوفهم على دليل من الأخبار وإلّا لنقلوه ولو تأييداً لهذه الأدلة العقليّة باصطلاحهم كما هي عادتهم في جميع الأحكام، والذي وقفت عليه مما يدلّ على النقل إلى المواضع الشريفة للتبرّك والتيّمّن لشرفها روايات: منها…»، [الحدائق: ج4، ص149].
#الثّالثة: رغم شدّة التّتبع الرّوائي للمحدّث البحراني ومعروفيّته بين الفقهاء في هذا المجال إلّا إنّنا حينما نقرأ ما وقف عليه في هذا الخصوص نجدها روايات لا علاقة لها باستحباب النّقل إلى النّجف بخصوصها، بل تتحدّث ـ على ما استظهره هو وغيره ـ عن استحباب النّقل إلى بعض الأماكن الخاصّة من قبيل الحرم المكّي وبيت المقدس ولا مجال لحذف الخصوصيّة أيضاً، نعم نقل قصّة اليماني ونسبها إلى كتابي إرشاد القلوب وفرحة الغري والّتي حاول الفقهاء المعاصرون استظهار الاستحباب من خلال تقرير الإمام فيها، وهذا ما سنتوقّف عنده في النّقاط الّلاحقة.
#الرّابعة: استدلّ عموم الفقهاء المعاصرين لتمرير استحباب الدّفن في النّجف إلى العبارة الواردة في الجّزء الثّاني من إرشاد القلوب المطبوع والّتي نصّها: «إنّ من خواص تربة الغريّ إسقاط عذاب القبر وترك محاسبة نكير ومنكر هناك، كما ورد في بعض الأخبار الصحيحة عن أهل البيت “ع”»، وقد أرسل الفقهاء المعاصرون هذه النّص إرسال المسلّمات في رسائلهم العمليّة بل وبحوثهم الفقهيّة، ولم يذكروا لنا ولا رواية واحدة من هذه الأخبار الصّحيحة الّتي ادّعى صاحب الكتاب توافرها سوى رواية اليماني الّتي سيأتي الحديث فيها، وهذا من الغرائب!!
#الخامسة: نقل صاحب الجّزء الثّاني من كتاب إرشاد القلوب المطبوع رواية نصّها: «روي عن أمير المؤمنين “ع” أنّه كان إذا أراد الخلوة بنفسه أتى طرف الغري، فبينما هو ذات يوم هناك مشرف على النجف فإذا رجل قد أقبل من البريّة راكباً على ناقة وقدامه جنازة، فحين رأى علياً “ع” قصده حتى وصل إليه وسلّم عليه فردّ عليه السلام، وقال: من أين؟ قال: من اليمن. قال: وما هذه الجنازة التي معك؟ قال: جنازة أبي لأدفنه في هذه الأرض. فقال له علي “ع”: لِمَ لا دفنته في أرضكم؟! قال: أوصى بذلك وقال: إنّه يدفن هناك رجل يدعى في شفاعته مثل ربيعة ومضر. فقال “ع” له: أ تعرف ذلك الرجل؟ قال: لا. قال: أنا والله ذلك الرجل ثلاثاً، فأدفن، فقام ودفنه». [ص440]، ولا أدري كيف بقيت جنازة والد اليماني هذه الفترة الطّويلة من السّفر في تلك الأيّام ولم تتعفّن حتّى يطلب منه الأمير “ع” أن يدفنها ويتفاخر بأنّه هو الرّجل الّذي يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر؟!
#السّادسة: إنّ الجّزء الثّاني من كتاب إرشاد القلوب المطبوع والّذي حمل هذا النّص وغيره من الغرائب ليس للدّيلمي جزماً وهو من المكذوبات عليه، وقد أُلصق هذا الجّزء بالرّجل العابد الزّاهد زوراً وبهتاناً لأغراض مذهبيّة معروفة كما صرّح بذلك جملة من المحّققين، نعم حيث إنّ صاحب البحار نسب هذا الجّزء إليه وأرسله إرسال المسلّمات سار الفقهاء على ذلك، وسنوضح في دراسة مستقلّة أدلّة مدّعانا ووثائقه بالتّفصيل إن شاء الله تعالى فترقّب.
#السّابعة: لو سلّمنا بصحّة انتساب هذا الجّزء من الكتاب إلى الدّيلمي [من أعلام القرن الثّامن حسب الفرض] ولا نسلّم فإنّ الرّواية تبقى مُرسلة ولا قيمة فقهيّة لها فضلاً عن عدم وجود قيمة معرفيّة فقهيّة لنفس الكتاب أيضاً حتّى على أساس وهم التّسامح في أدلّة السَُنن الّذي سوّغوا كلّ شيء عن طريقه، إذ لا نتعقّل أن يُرتّب حكم فقهيّ بهذا الحجم والضّخامة على إثر رواية لا أصل ولا فصل لها مع هذا الصّمت المطبق من قبل المراجع والفقهاء المعاصرين، ولو كان هذا الأمر عند غيرهم لأقاموا الدّنيا ولم يقعدوها!
#الثّامنة: نصّ المحدّث البحراني وتبعه على ذلك معظم الفقهاء المعاصرين وفي طليعتهم المرحوم الخوئي على وجود رواية اليماني في كتاب فرحة الغري للمرحوم عبد الكريم بن طاووس “648ـ693هـ” أيضاً، ولكن حين العودة إلى “فرحة الغريّ بصرحه الغري” المطبوع لا نجد لهذه الرّواية أثراً، الأمر الّذي يؤكّد إنّها جاءت في الجّزء الثّاني المنسوب إلى الدّيلمي فقط، ولم ترد في المصادر الّتي قبلها، وهذا يقع ضمن المحاولات المذهبيّة الّتي سعى بعض علماء الدّولة الصّفويّة لتدشينها.
#التّاسعة: لم ينقل لنا أحد من الفقهاء والمحدّثين واحدة من هذه الرّوايات الصّحيحة حسب المدّعى والّتي تنصّ على إنّ من خواصّ تربة الغريّ إسقاط عذاب القبر وترك محاسبة منكر ونكير؛ فإذا كانت موجودة كما يدّعي مصنّف الجّزء الثّاني من إرشاد القلوب المنسوب للدّيلمي وقلّده عموم المحدّثين والفقهاء من بعده لعُثر ولو على واحدة منها، وهل يُعقل ضياع جميعها وغيابها عن أصحاب الموسوعات الحديثيّة من الدّرجة الأولى والثّانية وغيرهم خصوصاً عن أمثال أبن شهر آشوب الّذي ادّعى إنّ المصادر الّتي كانت تحت يده وهو يكتب ناهزت الألف!!
#العاشرة: نحن نجزم إنّ الواقع الشّيعي الموجود لم ولن يتغيّر في الوقت الحالي على الإطلاق وإن جاءه وحي من السّماء أيضاً، وما ذكرناه وسنذكره من بحوث في هذا المجال لن يغيّر من هذا الواقع الإسمنتي المستحكم الّذي ساهمت جهود المتكلّمين والفقهاء والمنبريّين في تشييده واستحكامه ولا زالت تنحت الأدلّة تلو الأدلّة في سبيل ذلك، لكنّا نراهن على الجّيل الجّديد والعولمة الّتي ستسحق هذا الواقع ورجالاته ما لم يغيّروا من مبانيهم وبنائهم، والله الهادي إلى سبيل الصّواب.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...