المرجعيّة الدّينيّة والأسئلة المحظورة!!

#في شباط عام: “1992م” كتب الدّكتور جودت القزويني مقالاً أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الشيعيّة الخاصّة آنذاك حمل عنوان: «المرجعيّة الدينيّة والأسئلة المحظورة»، وقد نشره في جريدة صوت العراق الصّادرة في العاصمة البريطانيّة لندن. وقد نصّ فيه بحقّ على: «إن المرجعيّة الشّيعيّة تقع تحت تأثير ونفوذ شبكة من رجال الدّين، وتحت تأثير سلطان واسع ومتنفّذ، ويندر أن يتمكّن أحدٌ أن يرشّح نفسه للمرجعيّة ويكسب ثقة النّاس إلّا من خلال التّفاهم مع هذه الشبكة، والتّنازل لمطالبها السياسيّة والماليّة، وإنّ هذه الشبكة تمارس نفوذها غير المرئي على الوسط الشّيعي في تشخيص وتحديد مرجع التّقليد بدرجة عالية، وهي قادرة على تقويم المرجعيّة وتقويضها في آن واحد».
#لكن الدّاعية المرحوم محمد مهدي الآصفي ذهب إلى وجود شيء كثير من المبالغة والغلوّ والافراط في هذا الكلام، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بشكل قائلاً: «لولا إنّي أعلم إنّ قائل هذه المقولة ـ ويعني به الدّكتور جودت ـ إنسان عالم وملمٌّ بظروف وتاريخ المرجعيّة البعيد والقريب، وقرأت له في تاريخ الفقه الإمامي دراسة ناضجة وعلميّة وقيّمة وجديرة بالاحترام، لقلت: إنّ هذا الكلام ضرب من الخيال»، والمؤسف إنّ هذه الطّريقة هي المتداولة في مواجهة كلّ من يريد أن يمسّ حظيرة القداسة المزعومة.
#لكنّ المرحوم الآصفي عاد ليخفّف من وقع حسن ظنّه الآنف الذّكر ليقول: «ولست أناقش في وجود هذه الحالة على أرض الواقع وهذا أمر طبيعي، فمن حول كلّ مرشّح للزّعامة نفر من الحاشية من أهل الدنيا والطمع في متاع الحياة الدنيا، وهؤلاء النّفر ينفعون ويضرّون بطبيعة الحال… هذا أمر لا أنفيه، ولكن الكلام في حجم هذا النّفر وقيمتهم السياسيّة والاجتماعيّة والدّور الّذي يمكن أن يضطلعوا به، وأنا لا أشكّ أن التّصور السّابق عن الحجم والدّور الضّخم الّذي يمارسه هذا النّفر لا واقع له على أرض الواقع إطلاقاً [!!]».
#أجل؛ كتب المرحوم الآصفي الردّ المتقدّم في عام: “1992م” ونشره في مجلّة الفكر الجّديد الصّادرة من دار الإسلام في لندن، أي قبل أن يستشرف ويعيش ـ كما استشرف الدّكتور جودت ـ فترة التّنازلات الماليّة والسياسيّة الرّهيبة الّتي قدّمها سماحة السيّد السيستاني “دام ظلّه” إلى مؤسّسة المرحوم الخوئي في سبيل تثبيت مرجعيّته العليا؛ فلولا هذا التنازلات ـ الّتي لا أشك في كونها مشروعة فقهيّاً عند سماحته ولو بالعنوان الثّانوي ـ لاستحال أن يصبح “دام ظلّه” مرجعاً أعلى للطّائفة الشّيعيّة على الإطلاق وفقاً للأسباب والمسبّبات الحوزويّة وقواعد الّلعبة المرجعيّة، وقد كان سماحته والمحيطون به واعين لهذا الأمر بشكل تفصيلي ودقيق كما وثّقنا ذلك مفصّلاً فيما سبق؛ حين قراءتنا لأحداث المرحلة وطبيعة صياغات التوكيلات والاشراف المفتوح الّذي منح للمؤسّسة وأعضائها، والدّكتور جودت الّذي عاصر وخبر هذه الأحداث وعايشها لا يقول ذلك رجماً بالغيب.
#وبعد ما يقرب من خمس وعشرين سنة من كلام المرحوم الآصفي الآنف الذّكر، كتب الآصفي نصّاً طويلاً ناقش فيه الهجوم على المؤسّسة الدينيّة الشّيعيّة بطريقته الخاصّة، وبغضّ الطّرف عن جميع ما جاء فيه من حقّانيّة وغيرها، لكنّ ما دعاني للتأمّل مليّاً فيه هو وصفه هذه المؤسّسة بكلّ ثقة واطمئنان بأنّها: «المؤسسة الأكثر نزاهةً ونظافةً وبركةً على وجه الأرض كلّها, ولستُ أعرفُ اليوم مؤسسةً عاملةً على وجه الأرض أكثر نزاهةً ونظافةً وبركةً منها من دون أي تحفّظ»!!! ويبدو لي إنّ المرحوم الآصفي نسي حين كتابته السّطور الآنفة من وصفهم بنفر من أهل الدنيا والطّمع المحيطون بكلّ مرجع والّذين يضرّون وينفعون حسب تعبيره، فلست أدري كيف كانت المؤسّسة الدّينيّة الشّيعيّة الأكثر نزاهة ونظافة وبركة على وجه الأرض كلّها وحول كلّ زعيم ومرجع فيها نفر من أهل الطمع والدنيا كما يعبّر المرحوم الآصفي نفسه؟!
#اعتقد إنّ النّص الأخير للمرحوم الآصفي ينبغي أن يُكتب عليه كما يكتب على بعض الأفلام السينمائيّة ممنوع على الأحداث؛ وينبغي أيضاً أن نضعه في سياق حسن ظنّه “رحمه الله” الزّائد عن حدّه وتديّنه وورعه وقداسته، وإلّا كيف يمكن لي التصديق بذلك وتاريخ الحوزة النجفيّة والقمّيّة مملوء بالفتن والمزايدات والاحترابات الشخصيّة التي لم ينزل الله بها أيّ سلطان، وهي طبيعيّة جدّاً في سياق بشريّة الحوزة ورجالاتها، رحم الله الآصفي، ذهب نقيّ الثوب طاهر السريرة.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...