#في سياق ما أشرنا إليه من دليليّة الحيرة الثّابتة بين جُلّ أصحاب الإمام الصّادق “ع” بعد رحيله في تحديد شخص الإمام من بعده على عدم وضوح الإمامة بالمعنى الشّيعي المتداول وبعرضها العريض بينهم وبين من تقدّمهم من الأصحاب… عرضت فيما تقدّم مناقشات سنديّة وتاريخيّة لما تمسّك به المتكلّمون الشّيعة من روايات لإثبات تنصيص الصّادق “ع” على خليفته، وأوضحت بعض ما يتراءى من تساؤلات مُقلقة إزاءها، وقد استعرضت الكلام فيما عبّروا عنه بصحيحة نصر بن قابوس… أمّا اليوم فسأتحدّث عن رواية أخرى صحيحة عندهم أيضاً؛ لنلاحظ أيضاً دلالات ما بعد الوقوع الكلاميّة والمذهبيّة الّتي أوجبتها أو زُجّت فيها:
#روى الكليني [المتوفّى سنة: 329هـ] بإسناده صحيحاً عندهم عن عيسى شلقان القول: كنت قاعداً فمرّ أبو الحسن موسى الكاظم “ع” ومعه بُهمة [خروف صغير]، فقلت له: يا غلام ـ وكان الكاظم صغيراً ـ ما ترى ما يصنع أبوك، يأمرنا بالشيء ثمّ ينهانا عنه؛ فقد أمرنا أن نتولّى أبا الخطّاب وبعد مدّة أمرنا أن نلعنه ونتبرأ منه؟! [ويبدو إنّ هذه الظّاهرة كانت تُقلق المحيطين بالإمام وتُثير الأسئلة فيهم]، فأجابه الكاظم “ع” وهو غلام: «إنّ الله خلق خلقاً للإيمان لا زوال له، وخلق خلقاً للكفر لا زوال له، وخلق خلقاً بين ذلك أعاره الإيمان يُسمّونهم المُعاريِن إذا شاء سلبهم، وكان أبو الخطّاب ممّن أعير الإيمان». فنقل عيسى شلقان هذا الجّواب إلى الإمام الصّادق “ع” بعد ذلك فعلّق “ع” كما في الرّواية: «إنّه نبعة نبوّة». [الكافي: ج2، ص418].
#لكنّنا حينما نقرأ هذه الرّواية في كتاب الكشّي [المتوفّى سنة: 350هـ] بإسناد صحيح عندهم أيضاً نجدها مع اختلافات جوهريّة أيضاً حيث جاء فيها: «قلت لأبي الحسن [الكاظم] “ع” وهو يومئذ غلام قبل أوان بلوغه: جعلت فداك ما هذا الذي يُسمع من أبيك، أنّه أمرنا بولاية أبي الخطاب ثمّ أمرنا بالبراءة منه؟! فقال أبو الحسن “ع” من تلقاء نفسه: «إنّ الله خلق الأنبياء على النبوّة فلا يكونون إلّا أنبياء، وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلّا مؤمنين، واستودع قوماً إيماناً، فإن شاء أتمّه لهم، وإن شاء سلبهم إياه، وإنّ أبا الخطاب كان ممن أعاره الله الإيمان، فلما كذب على أبي سلبه الله الإيمان». فلمّا أخبر عيسى شلقان الصّادق “ع” بهذا الكلام قال له: «لو سألتنا عن ذلك ما كان ليكون عندنا غير ما قال». [الكشّي: ص584].
#وحينما نقرأ هذه الرّواية في كتاب قرب الإسناد المتداول والمنسوب للحميري [المتوفّى في منتصف القرن الثّالث الهجري] نجدها بسيناريو مختلف وبزيادات وإضافات مذهلة حيث جاء فيها: «عن عيسى بن شلّقان قال: دخلت على أبي عبد الله “ع” وأنا أريد أن أسأله عن أبي الخطّاب، فقال لي مبتدئاً قبل أن أجلس: «يا عيسى ما منعك أن تلقي ابني فتسأله عن جميع ما تريد؟» يقول عيسى: «فذهبت إلى العبد الصّالح “ع” وهو قاعدة في الكُتّاب، وعلى شفيته أثر مداد، فقال لي مبتدئاً: يا عيسى إنّ الله… أخذ ميثاق النّبيّين على النّبوّة، فلن يتحوّلوا إلى غيرها عنها أبداً، وأخذ ميثاق الوصيّين على الوصيّة فلن يتحوّلوا عنها أبداً، وأعار قوماً الإيمان زماناً، ثمّ سلبهم إيّاه، وإنّ أبا الخطّاب ممّن أعير الإيمان ثمّ سلبه الله إيّاه». يقول عيسى: «فضممته إلى صدري وقبّلت بين عينيه، فقلت: بأبي أنت وأمّي، ذريّة بعضها من بعض والله سميع عليم». ثمّ رجعت إلى أبي عبد الله “ع” فقال لي: ما صنعت يا عيسى؟ قلت له: «بأبي أنت وأمّي، أتيته فأخبرني مبتدئاً من غير أن أسأله عن شيء بجميع ما أردت، فعلمت والله إنّه صاحب هذا الأمر». قال [الصّادق ع]: «يا عيسى، إنّ أبني الّذي رأيته لو سألته عمّا بين دفّتي المصحف لأجابك فيه بعلم». قال عيسى: ثمّ أخرجه ذلك اليوم من الكتّاب، فعلمت عند ذلك أنّه صاحب هذا الأمر». [قرب الإسناد: ص335].
#أقول: لا أريد أن أعلّق على هذه الرّواية بالتّفصيل وأطرح الاشكالات الكثيرة الّتي ترد عليها وعلى أصل صدورها ومقبوليّتها بهذه الصّيغ، ولا عن المرويّات الأخرى الّتي تثبت نسبتها لغيره “ع”، ولكنّي وددت إلفات نظر القارئ إلى التّطورات الصّياغيّة والدّلاليّة في أمثال هذه النّصوص الرّوائيّة وكيفيّة توظيفها كلاميّاً ومذهبيّاً؛ ليعرف بعد ذلك مختارنا القائل: إنّ كثرة الرّوايات الضّعيفة وذات المجاهيل لا توجب تواتراً أو اطمئناناً ما لم نستبعد المناشيء المذهبيّة والكلاميّة الموجبة لصدورها، من خلال تفحّص أحوال رواتها وتوجّهاتهم الكلاميّة والمذهبيّة، فتأمّل.