«لم يكن طلّاب النجف يمارسون التبليغ؛ وذلك لأن لغة الدراسة غير لغة عامّة الناس، وهؤلاء الطلّاب إمّا هم من خارج العراق، أو من داخله ولكنّهم درسوا بالّلغة الفارسيّة، وعلى كلّ حال، فلم يكونوا يمارسون التبليغ، ولا يدخلون السياسة، ولا يهتمون بقضايا الساحة الاجتماعيّة، ولا شك في أن الطالب الذي لا يتفرّغ للدراسة والبحث، ويشتغل بقضايا السياسة والتبليغ، لا يمكن له أن يتخصّص في الدراسة»(1).
بهذه الكلمات أجمل السيّد علي أكبر الحائري وصفه لحوزة النجف حتّى سبعينات القرن المنصرم، فالنجف التي يتحدّث عنها الحائري (الأخ) ليس لها علاقة بالتبليغ ولا بالاجتماع ولا بالسياسة ولا بأيّ شيء آخر غير الدرس والتدريس، والغريب: إن السيّد علي أكبر يعتبر هذا الانزواء والانطواء والانكفاء على الدرس والتدريس (إيجابيّاً)، وهو ميزة ميّزت حوزة النجف عن غيرها، رغم محاولته التخفيف من وقع كلامه في فقرات الحوار الأخرى.
وسواء أ كان هذا الكلام متّفقاً أو مختلفاً عن ما نقلناه سابقاً عن شقيقه الأكبر المرجع: السيّد كاظم الحائري (دام ظلّه)، والذي قرّر: وجود نواقص كثيرة في حوزة النجف، وهي التي أدّت في قناعته إلى عدم قيادتها للشعب لتحفظ وضع العراق (2)، الأمر الذي يشير بوضوح إلى نقده لهذا التمحّض في الدرس والابتعاد عن الأمّة والمصير إلى ضياعها، وبغض النظر عن جميع هذا فإن غرضنا من نقل هذه النصوص هو: وضع القارئ في السياقات العامّة لحوزة النجف بعيون الفقهاء والأساتذة الذين عاصروها ودرسوا فيها…، ويبقى السؤال الأخير الذي سنحاول الإجابة عنه في الحلقة القادمة: من هو الذي ساهم في تعريب الحوزة النجفيّة وتحريك نشاطها التبليغي؟، (يُتبع).
ــــــــــ
الهوامش:
(1) مجلّة: “پژوهش وحوزه” الفارسيّة، العدد (16)، ص 69.
(2) راجع مقالي السابق: النجف في عيون الفقهاء.