بعد أن نصّب الأصفهانيُّ وزملاؤه الشاهَ الإيرانيّ “رضا البهلوي” حاكماً على إيران، لم يستمر تحالفهم كثيراً؛ حيث قلب البلهوي لهم ظهر المجن، وسار في سياساته الرامية إلى تحديث الشعب الإيراني وعصرنته، ومحاولة تخليصه من سطوة رجال الدين التي ضربت في أعماقه من أيام الدولة الصفويّة، فجاء قانون الّلباس الموحّد والخدمة الإجباريّة وكشف الحجاب كما أوضحنا […]
بعد أن نصّب الأصفهانيُّ وزملاؤه الشاهَ الإيرانيّ “رضا البهلوي” حاكماً على إيران، لم يستمر تحالفهم كثيراً؛ حيث قلب البلهوي لهم ظهر المجن، وسار في سياساته الرامية إلى تحديث الشعب الإيراني وعصرنته، ومحاولة تخليصه من سطوة رجال الدين التي ضربت في أعماقه من أيام الدولة الصفويّة، فجاء قانون الّلباس الموحّد والخدمة الإجباريّة وكشف الحجاب كما أوضحنا ووثّقنا ذلك في دراسات سابقة.
لكنّ الأصفهاني وبعض رفاقه لم يتقبّلوا هذه السياسات في بداية اقرارها، وعدّوا “بعضها” محقاً للدين وتجاوزاً على نوّاب الإمام في عصر الغيبة، ومع جميع ذلك: نحتوا عناوين فقهيّة عدّة لمداهنته، وأرسلوا له الهدايا والرسائل والتبريكات والتأييدات، وبادلهم بذلك أيضاً؛ فها هو مجلس الوزراء الشاهنشاهي يقرّر منح السيّد أبو الحسن الأصفهاني مبلغ ضخماً يُقدّر بـ (270) توماناً [وهو سعر عصا من نوع خاصّ]؛ ليخلع لباس الحزن والسواد بمناسبة مقتل ولده. [مرجعيت در عرصه اجتماع وسياست، منظور الاجداد، الفصل الخاصّ بالسيّد أبو الحسن الأصفهاني].
لم يرضخ الشاه الإيراني رضا البهلوي إلى قناعات مراجع النجف وفقهاءها، بل استمرّ في سياسته الرامية إلى تحييدهم، وتحجيمهم، وتأطيرهم؛ فمنع إخراج الأموال من إيران، والتي كانت مصدراً ماليّاً ضخماً جداً بالنسبة إلى مرجعيّة النجف آنذاك، ومنع كذلك الإيرانيّين من زيارة عتبات العراق المقدّسة؛ حيث كانت تصل الأموال عن طريقهم أيضاً، بل طالب مراجع النجف بتقديم المعونة الماليّة لبعض الإيرانيّين في النجف وكربلاء؛ لتسهيل مهمّة عودتهم إلى بلادهم، وكيف يساعدونهم وهم خالو الوفاض إلا من الّلمم التي يديرون بها الحوزة حسب تصريحاتهم.
بدأ مراجع النجف وفقهاؤها يتذمّرون من هذه السياسة الخانقة، حتّى أُبلغ السيّدُ الأصفهانيّ بتوسّط القنصل الإيراني في النجف حينها محمود أرفع: إن لا مانع لدى الحكومة الشاهنشاهيّة من وصول الأموال إليه، شريطة أن يقدّم لهم قائمة باسماء وكلاءه، رفض الأصفهانيّ هذا العرض، واعتبره محاولة لاضطهاد وكلاءه وتشديد الخناق عليهم، ومع هذا كلّه بقيت العلاقة تحافظ على رسميّتها على طريقة الأتكيتات الحوزويّة.
وفي نهاية عشرينات القرن الماضي شهدت إيران تحرّكات علمائيّة واسعة لرفض المضايقات الشديدة التي مارسها رضا البهلوي على رجال الدين، لكنها جميعاً لم تلق موقفاً صريحاً واضحاً من الأصفهاني، وتعامل معها بمنطق الصناعة الفقهيّة الرسمي، والذي تكون التقيّة هي الحاكمة فيه، بل ندّد بها وشجبها، وإن مواجهة الحكومة الشاهنشاهيّة بمثابة مواجهة الرسول الأكرم في بدر وحنين، واعتبر إن تحرّك علماء أصفهان مثلاً هو نوع من التدخّل في السياسة التي لا تتناسب مع رجال الدين؛ كلّ ذلك في سبيل الحفاظ على الحكومة الشاهنشاهيّة، وعدم الاصطدام بها، وعدم دفع الأمور نحو الهاوية.
وفي سياق هذا الشدّ والحلّ، حاول الأصفهاني وبعض رفاقه الضغط على البروجردي الذي كان ساكناً في إيران، في سبيل تحريك الجوّ العلمائي ضد رضا البهلوي… سنتابع في الحلقة القادمة موقف البروجرديّ من هذا العرض بعد التهديد الذي تلقاه منهم، وتفاصيل هذا الاجتماع المشوّق الذي نقلته المخابرات الشاهنشاهيّة في نفس الّلحظة إلى الجهات المعنيّة لاتّخاذ ّالّلازم، فتابعونا لتعرفوا هذه الحقائق المغيّبة، وبالوثائق أيضاً كما عوّدناكم، على أن أشير إلى نقطة هامّة أتمنّى على وعّاظ الفقهاء أن يتمعّنوا فيها:
لا اهدف من خلال نقل هذه القصص تسقيط أحدٍ أو رفع مكانة أحدٍ بالباطل لا سمح الله؛ فعلّام الغيوب وحده هو الذي يذلّ ويعزّ، ويكرّم ويخذل، فتلك مرجعيّات قد خلت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ولكن: حينما يرزح الفرد الشيعي إلى هذه الّلحظة تحت وطأة مقرّرات تلك المرجعيّات، وسياقاتها، ومناهجها، وأحكامها، وهيكليّاتها، وإداريّاتها، وأوصاف شخوصها… ألا يحقّ له أن يراجع جميع ذلك؛ ليميّز بين صوابها وخطأها، بين سماويّتها وبشريّتها؟! ولماذا تريدون منّ الناس أن تستمر في الخطأ تلو الخطأ؛ ليس لشيء، سوى إن مصلحة المذهب [التي هي مصلحتهم في واقع الأمر] تستدعي ذلك، #ولا أدري: هل تتصوّرون إن المذهب بهذا الضعف والخواء بحيث إن استعراض ونقد بعض مواقف مرجعيّاته وفقهائه سيزعزع من مكانته في داخل الأمّة الشيعيّة؟! (يُتبع).