إسهامات السيد الطباطبائي الفلسفيّة، عرض وتحليل

16 نوفمبر 2016
4634
ميثاق العسر

للطباطبائي إسهامات عديدة في الميدان الفلسفي فضلاً عن باقي الميادين، جاء بعضها بنحو الإبداع، فاختصت به دون غيره من الحكماء، رغم وجود جذور لبعضها في كلمات السابقين عليه، وجاء بعضها الآخر مكمّلاً ومتمّماً لأبحاث سلفه من الحكماء. سنحاول في هذه المقدمة الإشارة إلى بعض هذه الإسهامات بشكل موجز؛ بغية وقوف الباحث والمتابع على إنجازات هذا […]


للطباطبائي إسهامات عديدة في الميدان الفلسفي فضلاً عن باقي الميادين، جاء بعضها بنحو الإبداع، فاختصت به دون غيره من الحكماء، رغم وجود جذور لبعضها في كلمات السابقين عليه، وجاء بعضها الآخر مكمّلاً ومتمّماً لأبحاث سلفه من الحكماء.
سنحاول في هذه المقدمة الإشارة إلى بعض هذه الإسهامات بشكل موجز؛ بغية وقوف الباحث والمتابع على إنجازات هذا الحكيم(1):
1- إسهاماته في نظرية المعرفة
أكّد الطباطبائي على أن البحث الابستمولوجي (=نظرية المعرفة(2)) لا يمكن أن يكون دون البحث الانطولوجي (=نظرية الوجود)، وجراء هذا التأكيد عرض لأبحاث العلم في إطار هيكليةٍ منطقيةٍ؛ حيث بدأ البحث أولاً: بالوجود الذهني وحقيقته، وثانياً: بالعلم [والذي هو وجود خارجي]، وثالثاً: بالتفريق بين العلم والوجود الذهني، وخلص رابعاً: إلى طرح محاولةٍ لتحصيل معيار لاقتناص الواقع وكشفه.
فبعد أن حلّل معنى العلم (=الكشف والإراءة) وأثبت وجوده، وأنَّ العلم فعلية محضة منزهة عن أي قوة واستعداد، أثبت بأنَّ العلم من سنخ الوجود لا الماهية، وأثبت أيضاً بأنَّ العلم مجرد لا مادي، ولا مجال لأي نوع من أنواع التغيّر أو التحوّل فيه [الأعم من الدفعي أو التدريجي، بالطبع أو بالقسر، بصورة تكامليةٍ أو تنازليةٍ أو بمستوى واحد]، وهذا لا يعني عدم إمكانية تكامل العالم، بل العالم في تكامل دائم، إلا أن الصورة العلمية لا مجال لزيادتها أو نقصانها.
إن حقيقة العلم ـ بناءً على هذا التصوير ـ هي حقيقة مجردة لا سبيل لجميع المقولات إليها، والنفس الإنسانية ـ التي تناله أو تتحد معه ـ مجردة أيضاً، وكذا المبدأ الذي أفاضه. وهذا اللون من الاستدلال ـ أعني الاستدلال بتجرد النفس على تجرد العلم ـ يبدأ من العلم الحصولي في المدرسة المشائية، ومن علم النفس الحضوري بذاتها في المدرسة الإشراقية، ووصل إلى أوجه وكماله عند مدرسة الحكمة المتعالية.
ولاشك بأن هذا اللون من العرض والتحليل والإسهام يعدُّ إبداعاً خاصاً به رحمه الله.
2ـ نوعيّة الحمل في قاعدة بسيط الحقيقة تمام الأشياء
لاشك بأن قاعدة بسيط الحقيقة تعدُّ من مفاخر مدرسة الحكمة المتعالية؛ إذ ترتّب في ظلّها الكثير من المباحث، وحلّت في إطارها الكثير من الإشكاليات، من قبيل: (جامعية ذاته لجميع الهويات) (حقيقته التامة) (علم الحق تعالى بذاته) (ظهور ذاته على ذاته) (اتحاد النفس الناطقة مع جميع قواها وشؤونها الذاتية في مقام جمع الجموع)… وإلى غير ذلك من المباحث الأخرى.
لقد وصف صدر المتألهين هذه القاعدة بكونها غامضة ومعقّدة، وأن إدراكها ـ دون علمٍ وحكمةٍ ـ أمرٌ في غاية الصعوبة. وقد عُدّ بسيط الحقيقة ـ وفقاً لهذه القاعدة ـ الهوية التي تحمل جميع الكمالات الوجودية، وأن حقائق هذه الأمور قابلة للحمل عليه. هذا من جانب. ومن جانب آخر لا يمكن أن نحمل عليه شيئاً من الأشياء بالحمل الأولي أو الشائع، وذلك لأن جميع موجودات عالم الإمكان مسلوبة عنه بالضرورة، وهو ليس بشيء منها، وغير متّحد معها، ولن يكون عينها؛ فإنَّ البسيط المحض لا يمكن أن يتحد مع الموجود الإمكاني المحدود، فضلاً عن أن يكون عينه.
بعد هذا البيان الصدرائي للقاعدة يُطرح هذا التساؤل: ما هي نوعية الحمل المرادة فيها؟
لاشك بأن الحمل الذاتي الأولي ـ والذي يتحد الموضوع مع المحمول فيه مفهوماً ـ غير مراد هنا؛ إذ لا اتحادَ مفهومي ولا ماهوي للواجب مع شيء من الأشياء الوجودية.
ومع انتفاء الحمل الأولي ينحصر الأمر ـ وفقاً لهذا التقسيم ـ بالحمل الشائع ـ والذي يتحد الموضوع والمحمول فيه خارجاً ـ فهل الحمل المراد في القاعدة هو الشائع الصناعي؟
نصَّ الطباطبائي في حاشية له على بيان صدر المتألهين المرتبط بهذه القاعدة على أن المراد فيها ليس بشائع صناعي أيضاً، مقرراً ذلك بالقول:
»ومما يجب أن لا تغفل عنه أن هذا الحمل ـ أعني حمل الأشياء على بسيط الحقيقة ـ ليس من قبيل الحمل الشائع؛ فإن الحمل الشائع ـ كقولنا زيد إنسان، وزيد قائم ـ يُحمل فيه المحمول على موضوعه، بكلتا حيثيتي إيجابه وسلبه، اللتين تركّبت ذاته منهما، ولو حمل شي‏ء من الأشياء على بسيط الحقيقة بما هو مركّب، صدق عليه ما فيه من السلب، فكان مركّباً، وقد فرض بسيط الحقيقة، هذا خلف. فالمحمول عليه من الأشياء جهاتها الوجودية فحسب، وإن شئت فقل: إنه واجد لكل كمال، أو إنه مهيمن على كل كمال، ومن هذا الحمل حمل المشوب على الصرف، وحمل المحدود على المطلق«(3).
ما أشار إليه الطباطبائي في النصّ المتقدم هو نوع آخر من الحمل، لا يتحد الموضوع والمحمول فيه مفهوماً أو مصداقاً كما في الحملين المتقدمين، بل يتحدان من حيثية الواقعية العينية والخارجية، فكما أن كل معلول هو رقيقة بالنسبة إلى علّته، وكل علة حقيقة بالنسبة إلى معلولها، فعلة العلل ومبدأ المبادئ هو حقيقة الحقائق أيضاً، وهو الحقّ المحض؛ فالمطلق هو حقيقة اللاتقيّد، والمقيّد هو رقيقة تلك الحقيقة. ويسمى هذا الحمل: حمل الحقيقة على الرقيقة أو حمل المطلق على المقيّد.
إن الخصوصية البارزة لهذا النوع من الحمل هي في كونه من طرفٍ واحدٍ، فكلما يُحمل على الحقيقة تُحمل رقيقته على المقيّد فقط، ولكن ليس كل ما يُسلب من المطلق يسلب من الرقيقة والمقيّد. أي إنّ البعد السلبي للمطلق والحقيقة غير موجود في المقيد والرقيقة، وليس في ذلك أيّ إشكال، خلافاً للحمل في قضية زيد إنسان؛ إذ كل ما يُحمل على الإنسان يحمل على زيد، وكل ما يُسلب من الإنسان يُسلب من زيد.
مثال ذلك: إذ كانت العلة مجردة والمعلول مادّياً، فكل كمال وجودي نجده في العلة، فهو موجود في المعلول في حدود الرقيقة والتنزّل والتمثّل والضعف. لكن ليس كل ما يُسلب عن العلة والمطلق فهو مسلوب عن المعلول والمقيّد. وعلى هذا فعندما تصل سلسلة العلل إلى علة هذه العلل، فهذا يعني الوصول إلى تامّ الحقيقة والبساطة، ولا شك بأن البسيط ـ على أساس الحمل المفروض في هذه القاعدة ـ هو تمام الأشياء، بمعنى كونه واجداً لجميع الكمالات المفروضة في المعاليل والمركّبات والمقيدات، دون النقائص والسلوب.
مما تقدّم يتضح بأن قاعدة بسيط الحقيقة تمام الأشياء، وليس بشيء منها هي عبارة عن قضيتين:
الأولى: بسيط الحقيقة إطلاقاً ووجوداً وكمالاً كل الأشياء.
الثانية: بسيط الحقيقة حدّاً وتقييداً ليس بشيء منها.
ومن هذا يظهر بأن افتراض كون الله عالماً وقديراً يعني أن الموجود عند العلماء والمقتدرين هو رقائق تلك الحقائق، أما حقائق هذه الحقائق فهي عنده عز اسمه. وكذا الأمر في الصفات الأخرى؛ وذلك لعدم وجود أي موجود محدود إمكاني معه عزّ اسمه، ولا يمكن له أن يتّحد معه، ولا يمكن أن يكون عينه، وإلا للزم اجتماع النقيضين.
وفي نهاية هذا الإسهام الطباطبائي ـ إن جاز لنا مثل هذا التعبير ـ نقول: قد يلحظ المتتبع هذا البيان الجزل بنحو متناثر في كلمات صدر المتألهين، لكنه لا يجد فيه هذا الانسجام والوضوح الذي نجده في كلمات الطباطبائي رحمه الله.
3ـ برهان الصديقين بثوب جديد
يعدُّ برهان الصديقين أحد أهم البراهين التي اكتشفها الحكماء المسلمون لإثبات واجب الوجود جلّ وعلا، وقد مرّ هذا البرهان بتطورات عديدة، فقد طُرح هذا البرهان في الفلسفة المشائية من أيام ابن سينا ببيان خاص، كما طُرح أيضاً هذا البرهان في كلمات تلاميذه والمأنوسين بفلسفته ـ ومنهم بهمنيار ونصير الدين الطوسي ـ وبقية طلاب هذا الحقل التخصصي ببيان آخر.
وهكذا توالت البيانات بالنُضج حتى وصلت النوبة إلى الحكيم صدر المتألهين الشيرازي، الذي قام بطرحه وفقاً لمبانيه الخاصة. وعن طريق فلسفة هذا الحكيم حُلّت الإشكاليات التي كان يعاني منها في إطار البيانات السالفة.
وبعد مرور هذا البرهان بتطورات تكاملية طيلة القرون الأربعة الماضية، انتهى المطاف به أخيراً إلى حقبة الفيلسوف الطباطبائي، فقد جاء تقرير هذا البرهان في مجموع آثاره المختلفة، بإبداع مميّز لم يعتمد على أيّ مقدمةٍ من المقدمات الفلسفية، بمعنى: أن مسألة إثبات واجب الوجود أضحت ـ عن طريق هذا البرهان ـ أول مسألة فلسفية، ولم تعد هناك حاجة لافتراض مجموعة من المقدمات ـ نظير: أصالة الوجود، والتشكيك في الوجود، وبساطة الوجود، والمساوقة بين الوجود والشيئية ـ للوصول إلى مرام هذا البرهان.
ولأجل إيضاح هذه النقلة الطباطبائية علينا بدايةً دفع توهّم قد يتراءى أمام معقوليتها؛ فكيف أمكن ذلك وهذه المسألة ـ أعني مسألة إثبات واجب الوجود ـ تتوقف على العديد من المسائل الفلسفية، نظير تحديد معنى: الضرورة، الأزلية، الواجب…وإلى غير ذلك من الأمور؟
ودفع هذا التوهم يتحصّل عن طريق إبعاد مثل هذه القضايا عن دائرة المسائل الفلسفية، بل هي من مبادئ البحث التصورية التي تدخل في سنخ التصورات لا التصديقات.
إذا ارتفع هذا التوهم قرر الطباطبائي هذا البرهان قائلاً: إن أصل الواقعية ـ سواء أكانت هذه الواقعية الخارجية وجوداً (كما هو مختار القائل بأصالته) أو ماهيةً (كما هو مختار القائل بأصالتها) يعني عدم إمكانية زوالها بأي نحو من الأنحاء، وإذا فرضنا زوال أصل الواقعية فسيكون لهذا الزوال واقعية أيضاً، بمعنى: أن افتراض زوال هذه الواقعية تحت شروط وقيود معيّنة يوجب أن يكون لهذه الشروط والقيود التي زالت فيها هذه الواقعية واقعية أيضاً.
فإذا اخترنا بطلان الواقعية فرضاً، فسيؤول الأمر ـ لا محالة ـ إلى ثبوت مجموعة من الواقعيات. وإذا اخترنا زوال الواقعية واقعاً، فزوالها هو عين الواقعية التي قبلناها.
فتحصل: بأن أصل الواقعية غير قابل للإنكار بوجه من الوجوه.
وإذا كان لأصل الواقعية ضرورة أزلية؛ لأن فرض زوالها عين قبول تحققها. فلا شيء من الموجودات الإمكانية ضروري الأزلية؛ إذ لا نرى عند تطبيقنا للضرورة الأزلية على كل واحد منها وجدانها لهذه الضرورة؛ بداهة أن كل واحد من هذه الموجودات إما أن يكون مسبوقاً بعدمٍ أو ملحوقاً به، وبالتالي فهو ليس بواجب بالذات.
من هذا البيان يتضح بأن أصل الواقعية ـ الذي لا زوال له ولا محدودية ـ هو غير الموجودات الإمكانية المحدودة، وهذا هو: (الله عز وجل).
ولا إشكال بأن إثبات المبدأ تعالى ـ وفقاً لتقرير الطباطبائي لهذا البرهان ـ يمكن اعتباره أوّل مسألة فلسفية، والتي لا تحتاج إلى قبلية أيّ مبدأ تصديقي فلسفي. وهذا يكشف بأن إثبات واجب الوجود هو من سنخ البديهيات التي لا تقبل الشك والترديد(4). على أن إثبات واجب الوجود هو غير إثبات أسمائه وصفاته الحسنى، ومن الممكن إضافة تقرير آخر لهذا البرهان لإثبات ذلك(5).
4- الحد وسلبه عنه تعالى
لم يرتض الطباطبائي ما قد يتراءى من كلمات صدر المتألهين في بعض بحوث كتاب الأسفار، من أن الله سبحانه تعالى محدود باللاحدّ، بنحو الإيجاب العدولي، ومال لأجل ذلك ـ رغم إيمانه في العديد من المباحث بأن الوجوب حقيقة مشككة ـ إلى تقرير المطلب بنحو يكون سلب الحدّ عنه تعالى يؤول إلى السلب التحصيلي، بمعنى أنَّ الواجب سبحانه وتعالى لا حدّ له أصلاً، لا أنَّ حدّه عدم الحدّ.
كما أن للطباطبائي نقداً على رؤية الفيلسوف محمد رضا قمشئي (1306هـ ق) القائلة: بأن حقيقة الواجب هي اللابشرط، إذ قرر في مناقشتها: بأن الوجود اللا بشرط لا يمكن أن يكون واجباً إلا بإبطال التشكيك في الوجود. لكنه عاد بعد سنوات ـ وربما لمصلحة كما يحتمل تلميذه جوادي آملي ـ ليرفع الستار عن ذلك موضحاً بأنَّ الحق مع القائلين بأن حقيقة الواجب هي اللابشرط المقسمي.
وفي بيان ذلك نقل لنا تلميذه الشيخ جوادي آملي قصةً حدثت في مجلس درس الطباطبائي الخاص، فبعد أن نُقل له بأن صاحب كتاب بدائع الحكم المرحوم آقا علي حكيم(6) يذهب إلى أن التقابل بين الواجب والممكن (=الغني والفقير) ليس بتقابل الملكة والعدم، بل هو من تقابل السلب والإيجاب؛ إذ إنَّ تقابل الملكة والعدم يعني أن الموضوع له قابلية وإمكانية الاتصاف بوصف (الأعم من الإمكانية الذاتية أو الاستعدادية)، لكن هذا الموضوع فاقد له، كالإنسان الذي له قابلية الاتصاف بالبصر، ومع عدم اتصافه يوصف بالعمى. ومن هنا يكون ثبوت وصف الغنى الواجبي للفقير محالاً، فلا يمكن أن تحمل الممكنات هذا الغنى، ولا يمكن أن تحمل تلك الشأنية الوجودية الخاصة بالواجب (=الغني المحض) حتى تكون مع حفظ هذه الشأنية فقيرة ـ حيث فقدت ذلك الغنى ـ بناءً على تقابل الملكة والعدم.
وخلاصة هذا التحليل: لا يمكن لجميع الأشخاص والأصناف والأنواع والأجناس الممكنة أن تحمل شأنية الغنى الواجبي، مهما ترقّت وتكاملت.
وبعد أن سمع الطباطبائي هذا الكلام ـ والكلام لتلميذه الآملي ـ لم يدافع عنه بشكل مباشر، إلا أنه قال في أثناء خروجه من تلك الجلسة: بأن الحق مع آقا علي حكيم. ويعدّ هذا تأييداً لرؤيته المفصّلة، والتي قال فيها: إن الواجب لا حدّ له، بمعنى السلب التحصيلي (=السالبة البسيطة)، لا الإيجاب العدولي (=الموجبة المعدولة المحمول).
نعم؛ قد يقال بتفسير آخر وهو: أن للملكة درجات ومراتب، والطرف المقابل ـ وإن لم يستطع الوصول إلى درجة الملكة العالية ـ لكن يمكن له أن يصل إلى مراتبها التشكيكية النازلة، وهو أمر يحقّق التقابل بينهما، فالصادر الأول أو غيره من الصوادر مثلاً لا إمكانية فيه ليصل إلى الغنى المحض، إلا أن نيله لمراتب الغنى النازلة ممكن، لكن الذي ينبغي الالتفات إليه هو أن جميع ما سوى الواجب يحمل مرتبة من مراتب الغنى المطلق، رغم أن الدرجة الكاملة للغنى المطلق مستحيلة التحقق لغير الواجب، فلا تحقّق لتقابل الملكة والعدم؛ إذ إنَّ ما سوى الواجب واجد للغنى لا فاقد له. وهذا ما جاء في كلمات الشيخ جوادي آملي.
5- بيان جديد في التوحيد الربوبي
للطباطبائي إبداعات خاصة في إثبات التوحيد الربوبي أيضاً، عالج من خلالها الإبهام الكلامي والإجمال الفلسفي الموجود في هذه الأبحاث، ومفاد ما طرحه هو التالي:
إذا فرضنا أكثر من ربّ مدبّر لهذا العالم للزم فساد العالم وفناؤه؛ وذلك لأنَّ كل واحد منهما يدبّر العالم وفقاً لنظام وتدبير خاص، وحيث إن التدابير متفاوتة فسيختلّ نسيج هذا العالم ويضطرب انسجامه، الأمر الذي يؤدي إلى زواله.
وقد يواجه هذا البيان بإشكال مفاده: إن افتراض أرباب متعددين لهذا العالم ـ بدلاً من ربّ واحد ـ لا يلازمه ضرورةً تعدد تدبيرهم؛ لأنَّ هذه الأرباب المفروضة عالمة بالواقع، وعادلة ومنزّهة، وعارفة بالمصلحة. وعلى هذا فيمكن أن نفرضهم جميعاً يدبّرون العالم بتدبير عقلي يؤدي لصلاح وانسجام النظام الأحسن؛ كي لا نشاهد أي لون من عدم الانسجام. فالمانع من الانسجام والتوافق إمّا أن يكون الجهل أو العجز أو الجاه أو البخل وأمثالهما…وجميع هذه الأمور من الصفات السلبية المنزّه عنها ربّ هذا العالم، فلا مانع من الانسجام والترابط في البين، فلا يلزم من هذا الأمر فساد.
وفي مقام الإجابة على هذا القول قرر الطباطبائي ما يلي:
إن افتراض تعدد موجد العالم يفضي إلى تباين حقايقهما، ولازم ذلك تعدد صلاح العالم ونظامه الأحسن التابعين لحقيقة موجده، وإذا ما فرضنا عدم وجود مبدأ لهذا العالم فهذا يعني عدم وجود شيء بإسم القانون والمصلحة والنظام الأحسن؛ إذ إن جميع هذه الأمور ناشئة من مبدأ هذا العالم، ومستفادة من أمره. وعليه ففرض تعدد وتباين مبدأ العالم يوجب تفاوت واختلاف صلاح العالم (الناشئ من أحدهما) مع صلاح العالم ونظامه الأحسن (الناشئ من الآخر)؛ لأن القانون تابع لذات الموجد ومستفاد من أمره، فلا يمكن أبداً ـ في حالة التعدد ـ الجمع بين كون موجد العالم يعمل على أساس عقلي وما شابهه، وبين افتراض وحدة القانون ومصلحة النظام الأحسن في نُظم العالم؛ لأن فرض مبدأين للعالم يعني أنهما حقيقتان، وبالتالي فهناك قانونان، وهو أمر يوجب عدم انسجام هذا العالم على الإطلاق.
وإذا تمّ هذا البيان بشكل سليم فسوف يغنينا عن الإفادة من برهان استحالة توارد أكثر من علة على معلول واحد، والمطروح في محله من مباحث التوحيد(7).
6- البرهان اللمي والمسائل الفلسفية
يستخدم العديد من الفلاسفة برهان اللّم لإثبات بعض المسائل الفلسفية، وبرهان الإنّ لإثبات بعضها الآخر. أما الطباطبائي فقد خالفهم في ذلك، وذهب إلى عدم جريان برهان اللّم في المسائل الفلسفية، بل ولا طريق لبرهان الإنّ أيضاً، عدا قسم منه يسمى ببرهان الملازمات.
أما علة المآل إلى هذا القول فهو أن موضوع الفلسفة هو الواقعية الخارجية، والتي هي أعم الأشياء ولا خارج عنها إلا العدم، ومن هنا فلا يمكن أن نفترض شيئاً خارجاً عن دائرة أصل الواقعية يكون علة لثبوت المحمول لمثل هذا الموضوع العام؛ لأن خارج الواقعية المطلقة ليس إلا العدم. وتفصيل الحديث حول هذه النقطة موكول إلى آخر الفصل الحادي عشر من هذه المرحلة.
7- الفاعل بالجبر والفاعل بالقصد قسم واحد
للعلة الفاعلية أقسام ثمانية، وقد عدّوا الفاعل بالقصد والفاعل بالجبر من أقسامها. ولم يرتض الطباطبائي هذا الموضوع، وذهب إلى أن الفاعل بالجبر والفاعل بالقصد هما قسم واحد. ولإيضاح وجهة نظر الطباطبائي علينا التوقف إجمالاً لمعرفة حقيقة هذه الأقسام عند المشهور، ومن ثم الانتقال بعد ذلك لعرض تدليل الطباطبائي على هذا الرأي:
الفاعل بالجبر يقال لمن له علم بفعله دون أي يكون له اختيار تجاهه، نظير الإنسان المكره والمجبور الذي يجبر على فعل لا يريده ولا يميل إليه. أما الفاعل بالقصد فيُطلق على الفاعل الذي لديه ـ بالإضافة إلى العلم بفعله ـ إرادة أيضاً، نظير الإنسان الذي يمارس أفعاله الاختيارية.
إذا اتضح هذا نقول: إن الطباطبائي يذهب إلى أن الشيء الوحيد الذي يقوم به المكرِه هو ترجيح وتعيين الفعل للفاعل، بحيث إن الفاعل لا يجد أمامه إلا الفعل، ولا سبيل له إلا إيقاعه، لكن هذا لا يوجب سلب إرادة الفاعل تجاه فعله، بل إن الفاعل يقدم على الفعل المجبر عليه بعد تقييمه الخارجي، وترجيح جانب سلامته وأمنه، وهذا يؤكد أن للفاعل بالجبر إرادة، ولا يمكن عده فاقداً لها، فهو في الحقيقة أحد أقسام الفاعل بالقصد، وليس بمنعزل عنه خارجاً.
وبعد أن أوضح الطباطبائي رؤيته هذه استدرك قائلاً: بأنّا يمكن أن نفرض مائزاً بسيطاً بينهما، وهو أن الفاعل المكره لا يستحق ثواباً وعقاباً ومدحاً وذماً في أفعال الحسن والقبح، خلافاً للفاعل بالقصد. إلا أن هذا المائز والاختلاف لا يعود إلى مبادئ الفعل الاختيارية، وإلى طبيعة الاختلاف الماهوي بينهما، كي يكون اختلافاً بين فاعلين حقيقيّن، بل إنهما يختلفان من زاوية السنن الاجتماعية، والقوانين الإجرائية، ولأجل حفظ النظام والمصالح فقط(8).
8 – الإرادة والعلم
إن حقيقة الإرادة لدى الطباطبائي غير منعزلةٍ عن العلم بالضرورة العملية والجزم والإنبغاء، بل يعتقد بأن النفس الإنسانية ـ والتي هي العلة الفاعلية للأفعال الصادرة من الإنسان ـ ليست إلا مبدأ علمياً تصدر الأفعال منها على أساس افتراضها كمالاً ثانياً لها، ومن هنا فلا وجود لوصف حقيقي يغاير العلم بالإنبغاء في النفس الإنسانية، بل إن هناك ترديداً وتأملاً في وجوده على أقل التقادير.
إن قيل: هذا هو عين ما نُسب إلى بعض المعتزلة من إرجاع الإرادة إلى المنفعة؟
أجاب: هناك فرق دقيق بين هذين القولين، فالإرادة عند المعتزلة هي مجردة عن التصديق بالمنفعة، لكنها عندنا الجزم بالإنبغاء.
وقد قيل له أيضاً: إذا ضممنا هذه الرؤية إلى مفاد الآية الكريمة: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، لأمكن لنا القول باحتمالية أن يكون هناك يقين ـ مثلاً ـ لكن العمل القلبي والتصديق غير موجودين بسبب عدم وجود الإرادة؟
فأجاب: إن اليقين والعلم بالإنبغاء المطلق والشامل لجميع الجوانب لا يمكن أن ينفك عن الإقدام على العمل، وما وجد في فرعون ونظرائه استناداً إلى هذه الآية هو يقين وعلم نسبي بالإنبغاء؛ إذ لا وجود للعلم بالإنبغاء في بعض قوى النفس وميولها، ومع فرض وجود مثل هذا العلم فإن إيقاع العمل من النفس مترتب لا محالة(9).
ولأجل هذا البيان تأمل الطباطبائي في إثبات وصفٍ مستقلٍّ عن حقيقة العلم باسم: الإرادة، رغم مجيء هذا البحث في كتبه على أساس مشرب الحكماء(10).
9- الإرادة والقدرة الذاتية له عز اسمه
لقد اتفق الحكماء الإلهيون على أن الإرادة الذاتية لواجب الوجود تقابل إرادته الفعلية، والتي ترجع حين التحليل إلى العلم بالنظام الأحسن. لكن الطباطبائي تأمل في هذا الطرح، وذهب إلى عودة الإرادة الذاتية إلى صفة العلم. وهذه الصفة على غرار بقية الصفات الذاتية تتمايز مفهوماً عن بقية الصفات، لكنها عينها مصداقاً.
فإذا ذهبنا إلى أن الإرادة الذاتية صفة من صفات الذات الإلهية، وهي تثبت له عزّ اسمه بمعزلٍ عن الصفات الأخرى، فلابد أن تحتفظ بمفهومها بعد تشذيبها من النواقص وإبعاد العيوب عنها، ولابد لها أن لا تندمج ولا تندرج في إطار مفهوم آخر، ومع فرض أن مفهومها بمعنى النظام الأحسن فلن تكون ـ على هذا الأساس ـ وصفاً مستقلاً عن صفة العلم.
ولم يقتصر تأمل الطباطبائي على تفسير المشهور لإرادة الواجب الذاتية، بل ذهب إلى نقد تفسير القدرة الذاتية أيضاً؛ إذ لم يفسر الحكماء القدرة بصحة الفعل والترك كما هو التفسير الكلامي، بل ذهبوا في تفسيرها بمعنى مشيئة الفعل والترك، وحيث إن الإرادة الذاتية لا تحمل مفهوماً واضحاً لدى الطباطبائي، فيكون أخذها والمشيئة في تفسير القدرة غير خالٍ من الإشكال، ومن هنا عرّف رحمه الله القدرة الذاتية بـ (الحيثية الفاعلية للمبدأ مع العلم والاختيار)، ورغم أن هذا التعريف يحمل قيوداً متعددة، إلا أنه خالٍ من قيد الإرادة(11).
10- نقده للمثل الأفلاطونية
لم تسلم نظرية المُثل الأفلاطونية وأرباع الأنواع من ملاحظات وتأملات الطباطبائي النقدية، وبغية الوقوف على جوهر هذه الملاحظات علينا بدايةً الإشارة إلى مراد مشهور الحكماء من هذه النظرية، والتي ركنوا في إثباتها إلى قاعدة إمكان الأشرف.
يذهب المشهور الحكماء إلى أنَّ هناك سلسلة من الأمور الكلية المجردة، موجودة في عالم العقل بوجودٍ خارجي، وهي متحدة الماهية مع الموجودات المادية، من غير اختلاف ماهوي بينهما، بل هو منحصر في نحو الوجود الخارجي فقط، فأحدهما فرد مادي، والأخر فرد مجرد.
وهنا يتساءل الطباطبائي عن جريان قاعدة إمكان الأشرف؛ أهو مشروط باتحاد ماهية الفرد الأخس مع الفرد الأشرف، أم إن هذا الاتحاد ليس بشرط؟
إذا ذهبنا إلى عدم اشتراط ذلك فإن صرف صدق المفهوم الكلي على الموجود المجرد الخارجي لا يُدلّل على أن ذلك المفهوم هو ماهية ذلك الفرد المجرد الخارجي. هذا مضافاً إلى عدم وجود طريق لإثبات الإمكان الأشرف.
وإذا ذهبنا إلى اشتراط الاتحاد فكيف يمكن لنا إحرازه؛ إذ إن صدق المفهوم الكلي على المصداق الخارجي لا يعني ـ أبداً ـ أن ماهية هذا المفهوم هي نفس ماهية المصداق الخارجي، كما أن صرف وجدان الفرد المجرد لكمالات الفرد المادي لا يُدلّل على اتحاد ماهيتهما. نظير العلة والمعلول، فرغم أن العلة تحتوي على جميع الكمالات الوجودية للمعلول بنحو أعلى وأشرف، إلا أنها غير داخلة في ماهيته.
فالطباطبائي رغم كونه مؤمناً بأن موجودات هذا العالم المادي رقائق تلك الحقائق المجردة، إلا أنه لم يرتض الاتحاد الماهوي بين أرباب الأنواع وبين الأفراد المادية(12).
11- التدقيق في مباحث الحركة الجوهرية
لم يجد منظّر الحركة الجوهرية فرصةً كافيةً لشرح جميع أبعاد نظريته، ولم يسعفه الوقت أيضاً لعرض جميع فروعها ونتائجها، وبالتالي القيام بتحليلها والبرهنة عليها، من هنا تحمّل الطباطبائي هذه المهمة، ومارس التنظير لها، والبرهنة على ما يطرحه من نتائج لها، إما على أساس المباني الاجتهادية لصدر المتألهين، وإما على أساس اجتهاداته الخاصة التي طرحها في هذا الموضوع، وربما يكون أغلب هذه الاجتهادات غير مقبول لدى صدر المتألهين. ومن باب المثال نشير إلى بعض هذه النتائج:
* جميع موجودات عالم الطبيعة متحركة
لم تقتصر نظرية الحركة الجوهرية على فرضية الأبعاد الثلاثة للجسم (=الطول والعرض والارتفاع)، بل أضافت له بعداً رابعاً هو الزمان، على اختلاف في طبيعة الزمان والأبعاد الثلاثة الأخرى.
وحيث إن الزمان في الخارج هو عين حركة الجسم، ولأنه عين الحركة في الخارج فهو بعد من أبعاد الجسم، ومن هنا فلا وجود لموجود مادي في عالم الطبيعة يحمل خاصية السكون، وإذا ما فرضنا سكوناً فهو سكون نسبي لا مطلق(13).
* الحركة الجوهرية وإثبات الحدوث الزماني
أكّدت أبحاث مدرسة الحكمة المتعالية على أن الحدوث الزماني للموجودات المادية ليس لأنها ممكنة ذاتاً فقط، بل هو ـ بمعنى الهوية لا الماهية ـ ذاتيها أيضاً، فالزمان ـ والذي هو في الخارج عين الحركة ـ ذاتي وجودها.
ومن نتيجة هذا التأكيد يتضح بأن برهان المتكلمين المعروف بـ (برهان الحدوث) غير قادرٍ على إثبات الحدوث الزماني لذات المادة والمبدأ القابلي (=الموجود المادي)؛ فإن كل برهانٍ يعطي نتيجة بمقدار حدّه الأوسط، والحدّ الأوسط في (برهان الحدوث) هو (التغيّر العرضي) لعالم الطبيعية، لا التغيّر الذاتي؛ إذ إنه غير مقبول عندهم.
وإذا اقتصر الحدّ الأوسط (=التغيّر) ـ وفقاً للرؤية الكلامية ـ في حدود ودائرة الأعراض والعوارض المادية والطبيعية، فسيكون الحدوث الزماني في هذه الدائرة أيضاً، ولن يبقى لدينا طريق لإثبات الحدوث الزماني في عالمنا المادي.
لكن الحركة الجوهرية جعلت الحد الأوسط (=التغيّر) متحققاً في نفس الطبيعة، وبالتالي يكون الحدوث الزماني محققاً فيها، وفي نفس الوجود الخارجي للمادة والطبيعة أيضاً.
* عرض مبحث الحركة الجوهرية بعنوان إحدى درجات الوجود
عَرْضُ مبحث الحركة الجوهرية بعنوان إحدى درجات الوجود وطبيعته في الفلسفة الأولى، لا عَرْضُه في الطبيعيات بعنوان ظاهرةٍ تعرض على الجسم الطبيعي، وهذا الأمر يوجب الحصول على المزيد من النتائج.
* العلاقة الوثيقة بين حقيقة النفس وبين الحركة الجوهرية
إنَّ مبنى كون النفس جسمانية الحدوث روحانية البقاء من المباحث العميقة التي ترتبط ارتباطاً لا ينفك عن مبحث الحركة الجوهرية، وسيتجلى فهمه بشكلٍ أدقَّ وأعمقَ على أساس الإيمان بوقوع الحركة في الجواهر.
* العالم هو الذي يتحرك نحو المعلوم، لا العكس
إن العالِم هو الذي يتحرك نحو المعلوم، خلافاً لما اشتُهر بين السلف من الحكماء من أن الصورة العلمية هي التي تنتقل إلى العالم.
* إرجاع المحمولات بالضميمة إلى الخارج المحمول
إن المحمولات بالضميمة تعود إلى الخارج المحمول؛ وذلك لأن المادة تحمل قوة الأعراض الذاتية والخواص الطبيعية معاً، وبالتحوّل الذاتي ينفتح ما في داخلها، من غير أن ينضم إليها شيء من الخارج، بل تنبعث العوارض والخواص من داخلها وصميمها.
وهذا التحليل لا يلازم تزعزع بحث المقولات ووجودها، بل هو ممكن مع التسليم بها.
* وقوع الحركة في الحركة
إن الأعراض تابعة لوجود الجوهر وقائمة به، وحيث إنه ذو حركة سيّالة، فسيكون لتوابعه حركة أيضاً، لكن حركة هذه التوابع بالتبع لا بالعرض، بمعنى: أن الأعراض تتحرك بتبع الجوهر حقيقةً. هذا من جانب. ومن جانب آخر: لما كانت هناك حركة في نفس هذه الأعراض فلها على هذا حركة أخرى، وهكذا تظهر الحركة في الحركة من غير أن يكون هناك مانع حتى مع وصولها إلى جوهرٍ ذاتي؛ إذ تُختم الحركة حينئذ بحركة هي عين المتحرك.
وحدوث الحركة بالحركة وإن أوجب صعوبة وبطئاً، إلا أنه لا يوجب سكوناً البتة كما يرى صدر المتألهين، بل يرى الطباطبائي عدم انعزالها عن مسألة الحركة الجوهرية أساساً (14).
* لا تغيّر إلا مع الحركة
لا تغيّر إلا مع الحركة، بل إن كل تحوّل هو رهين حركة ما، وعلى هذا فلا تغيّر دفعي ما لم يكن هناك تغيّر تدريجي. كما إن جميع الحركات الحقيقية تكاملية، ولا يمكن للحركة الذاتية الحقيقية أن تتحرّك من الكمال إلى النقص، رغم وجود الحركة العرضية التي يكون التحرّك فيها من الكمال إلى الضعف(15).
* سيلان العالم وتحرّكه نحو الثبات:
إنَّ العالم المادي هو وجود واحد حقيقي وسيّال، يتحرّك نحو الثبات والتجرد(16).
* علاقة المتغيّر بالثابت والحادث الزماني بالمبدأ القديم وكيفية تفسير ذلك
طُرحت في كلمات وآثار الأوائل من الحكماء محاولات متعددة لتفسير العلاقة بين المتغيّر والثابت، وكيفية ارتباط الحادث الزماني بالمبدأ القديم، منها: افتراضهم أن للجسم حركة مستديرة يكون أحد أطرافها ثابتاً والآخر متغيّراً. ومنها: إيمانهم بوجود حركة توسطية وقطعية، وأن هذه الحركات هي السبيل لتفسير هذه العلاقة. ومنها: الإيمان بدوام أصل الحركة، وأن المتجدد هو أوضاعها المخصوصة…
لكن هذه الإشكالية لم ترتفع في نهاية المطاف؛ إذ مع قبول جميع هذه المحاولات يُطرح هذا التساؤل: إذا كان الشيء من جهة (ثباته) يأخذ الفيض من مبدأ ثابت، ومن جهة (تغيّره) يكون واسطةً لأخذ الفيض التدريجي للأمور المتغيّرة والمادية، فهل هاتان الجهتان ـ للشيء الواحد ـ إحداهما في طول الأخرى؟ فإذا كان لم تكن إحداهما في طول الأخرى فسيُعدم معنى الوساطة، وإذا اخترنا الطولية فكيف يمكن لنا تفسير ارتباط هذه الوجهة من الشيء المتغيّرة مع وجهته الثابتة؟
لكن نظرية الحركة الجوهرية تجيب عن هذه التساؤلات وأمثالها بالقول: إنَّ الحركة من حيث هي كذلك ـ أي التغيّر ـ ليس لها أيّ ارتباط بالثابت، كما أنها ليست في طول العلل، ولا مرتبطة بجعل علةٍ أو معلول شيء آخر، فإن الحركة ذاتية للموجود المادي، وكل ما كان في عالم العلية (سواء أكان علة أو معلولاً) فهو أصل الوجود، أما لوازمه الذاتية فهي ليست في سلسلة العلل. ومن هنا فما يفيضه المبدأ الثابت هو أصل وجود الشيء المادي، وما هو لازم ذاتي له وخارج عن حيطة مجعوليته الذاتية هو: (التغيّر والسيلان).
إذن فالثابت والمتغيّر ليسا حلقتين من سلسلة العلل الطولية، بل إن ما هو فيها (وجود العلة) و(وجود المعلول)، لا (سيلانهما) و(تغيّرهما)، وما هو (تغيّر) و(حركة) هو لازم ذاتي لإحدى حلقات هذه السلسلة، لا أنه جزء منها.
وبهذا التحليل يُفتح المجال للجمع بين إشكاليتي الحدوث الزماني لعالم الطبيعة ودوام الفيض الإلهي.
12- التشكيك في مقولة (الأين)
يذهب الطباطبائي إلى صعوبة إثبات مقولة مستقلة باسم (الأين)، ومن هنا حاول إرجاعها إلى مقولة (الوضع)، وعليه فسوف يقلّ عدد المقولات لديه دون حدوث أي مانع؛ إذ إن حصر المقولات في عشر ليس أمراً عقلياً، بل هو أمر استقرائي.
على أنه رحمه الله لم يشر إلى رأيه النهائي في خصوص هذه المسألة في كتاب نهاية الحكمة، بل سار في طريقة عرضه على مباني الحكماء، إلا أنه قرر في مبحث وقوع الحركة بأن إثبات مقولة مستقلة بالذات باسم (الأين) محلّ شك.
ما قدّمناه في الأسطر السابقة هو بعض من إبداعات الطباطبائي الفلسفية، وله “رحمه الله” إبداعات أخرى لا يسع المجال لتناولها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) إنَّ مضامين هذه المقدمة ومصادرها مستلّة بعد الترجمة والإضافة والتعديل من كتاب: شمس الوحي تبريزي، سيره علمي علامه طباطبائي ـ بالفارسية ـ آية الله جوادي آملي، مركز نشر إسراء، ط2، 1386هـ ش: ص188ـ210.
(2) قد يفرّق البعض بين الابستومولوجيا ونظرية المعرفة، ببيان أن الأولى مدخل للثانية، إلا أن الاصطلاح الإنجليزي يرادف بين هذين المصطلحين، وللوقوف على سياق هذا الترادف وأسبابه لاحظ: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والانجليزية واللاتينية، الدكتور جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، 1982م: ج1، ص33 .
(3) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، لمؤلفه: الحكيم الإلهي والفيلسوف الرباني صدر الدين محمد الشيرازي، المتوفى 1050هـ ق، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي المذيّلة بحرف (ط)، دار النفائس: الرياض، ودار إحياء التراث العربي: بيروت، الطبعة الخامسة: 1419 هـ ق ـ 1999م: ج6، ص110، ح1.
(4) وربما يكون هذا هو مفاد الآية الكريمة: {أَ فِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْض}. سورة إبراهيم، الآية: 10.
(5) للوقوف على تفاصيل أكثر لاحظ: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق: ج6، ص13، 27، 29.
(6) المولى المتألّه الحكيم الشهير بآقا علي المدرس، ابن المولى عبد الله الزنوزي التبريزي (1234-1307 هـ).
(7) لاحظ: الميزان في تفسير القرآن، السيد محمد حسين الطباطبائي: ج14، ص266ـ268.
(8) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق: ج3، ص12. نهاية الحكمة، تأليف: الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، بإشراف: الشيخ ميرزا عبد الله نوراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1404هـ ق ـ 1362هـ ش: ص172ـ 175، ف7م8.
(9) إشكالات طُرحت في مجلس درس الطباطبائي الخاص نقلها الشيخ جواد آملي، لاحظ: شمس الوحي تبريزي، مصدر سابق: ص201ـ 203.
(10) لاحظ: نهاية الحكمة، مصدر سابق: ص308،307،300،297.
(11) لإيضاح أكثر لاحظ: نهاية الحكمة، مصدر سابق: ص306،297.
(12) لتفاصيل أكثر لاحظ: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق: ج6، ص292ـ293. نهاية الحكمة، مصدر سابق: ص294.
(13) التلازم بين الزمان والحركة والمسافة هو كتلازم الجنس والفصل، والتي يشكّل كل واحد منهما عارضاً تحليلياً للآخر، لا عارضاً خارجياً؛ فإن هذه العناوين متّحدة في الخارج، وهي موجودة بوجودٍ واحدٍ.
(14) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق: ج3، ص77، ح4.
(15) لاحظ: نهاية الحكمة: ص202.
(16) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، حاشية السيد محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق: ج3، ص62، ح2، 182، ح2.


تنطلق إجابات المركز من رؤية مقاصدية للدين، لا تجعله طلسماً مطلقاً لا يفهمه أحد من البشرية التي جاء من أجلها، ولا تميّعه بطريقةٍ تتجافى مع مبادئه وأطره وأهدافه... تضع مصادره بين أيديها مستلّةً فهماً عقلانياً ممنهجاً... لتثير بذلك دفائن العقول...