أم البنين وصورتها النّمطيّة الرّاكزة!!

#من الأوهام المنبريّة الظّريفة الّتي مُرّرت حتّى على كبار المحقّقين وأصحاب التّراجم المعاصرين هي الأبيات الشّعريّة المشهورة المنسوبة لأمّ البنين والّتي مطلعها: [لا تدعوّني ويك أمّ البنين؛ تذكّريني بليوث العرين]؛ والّتي قام المرحوم عبّاس القمّي المتوفّى سنة: “1940م” بادراجها في كتابه “نفس المهموم” الّذي كانت طبعته الأولى حجريّاً سنة: 1917م”، قائلاً: «وأنا استرقّ جدّاً من رثاء إمّه فاطمة أم البنين “رض” الّذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكامل، وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم لترثيه [أي العبّاس] وتحمل ولده عبيد الله، فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة وفيهم مروان بن الحكم فيبكون بشجى النّدبة قولها “رض”: …لا تدعوني ويك أمّ البنين…» [نفس المهموم، القمّي: ص599].
#وقد أعاد هذه الحكاية مع أشعارها دون مصادر كلّاً من المرحوم محمد السّماوي المتوفّى سنة: “1951م” في كتابه”إبصار العين في أنصار الحسين” المطبوع في سنة: “1922م”، وكذا المرحوم محسن الأمين المتوفّى سنة: “1952م”؛ حيث نقلها بحرفيّة أيضاً في الجزء السّادس عشر من كتابه “أعيان الشّيعة” المطبوع سنة: “1939م”، وهكذا بقيّة الكتب الحسينيّة الأخرى.
#وبودّي تقديم بعض التّعليقات العاجلة:
#الأوّل: يبدو إنّ أوّل مصدر نقل أصل حكاية بكاء أم البنين في بقيع المدينة وبكاء مروان بن الحكم عليها هو أبو الفرج الأصفهاني المتوفّى سنة: 356هـ” في كتابه “مقاتل الطّالبيين”، وجاءت الحكاية بعد ذلك مع تفاصيل وطُرق أخرى في كتاب “الأمالي الشّجريّة” لمؤلّفه يحيى الشّجري المتوفّى سنة: “499هـ”، ومن ثمّ بقيّة الكتب الأخرى ومنها “ناسخ التّواريخ” لمؤلّفه محمد تقي سبهر المتوفّى سنة: 1227هـ”، لكنّ جميع هذه الكتب لم تذكر أبياتاً شعريّة، ولم تذكر اسم فاطمة لأمّ البنين كما فعل المرحوم القمّي وتبعه خطأً على ذلك بقيّة المعاصرين.
#الثّاني: نصّ المرحوم عبد الرزّاق المقرّم المتوفّى سنة: “1971م” على إنّه بحث وفحص كثيراً في كلمات أرباب التّراجم عن كلّ من سُمّي بالأخفش فلم يعثر على تنصيصهم على وجود شرح له لكتاب الكامل في الأدب للمبرّد، وحينما لم يجد ذلك لم يخفنا اعتقاده بأنّ المرحوم محمد السّماوي هو صاحب هذه الأبيات؛ لكنّه مرّرها في كتابه “إبصار العين” بطريقة النّسبة إلى غيره!!، ولهذا قرّر: إنّي كثيراً ما سألت السّماوي «عن مصدر هذا الشّرح فلم أجد منه إلّا السّكوت، وقد صارحته بمعتقدي في كون هذه الأبيات له [أي للسّماوي]، وأراد تمشية هذا الكلام بهذا البيان، فعلى المولى سبحانه أجره…!» [مقتل الحسين، المقرّم: ص337]، ولا أدري على ماذا يأجره الله تعالى طالما مارس الكذب ـ حسب فرضيّة المقرّم ـ في تمريرها؟!
#الثالث: لا أدري إن كانت نسخة النّفس المهموم المطبوعة حجريّاً في عام: 1917م كانت قد احتوت على هذه الأبيات أم لا، ولا أدري إن كان السّماوي قد أخذ هذه الأبيات من كتاب القمّي المطبوع قبل كتابه بخمس سنوات والّذي تعهّد صاحبه فيه أن لا ينقل من غير الكتب المعتبرة، أم إنّ السّماوي والقمّي قد أخذاها من كتاب خطّي لا قيمة له مثلاً، لكن سكوت السّماوي المريب لم أجد له تفسيراً.
#وكيف كان؛ فإنّ هذه الأبيات لا أصل ولا فصل لها في شيء من كلمات المتقدّمين والمتأخّرين، كما إنّ علامات الانتحال المعاصر بادية عليها فضلاً عن خرافة نسبتها إلى أمّ البنين، وعلينا أن نجعل هذه الأبيات كمثال بسيط جدّاً لطرائق تسلّل الخرافات والموضوعات إلى وعينا واستحكامها فيه استحكام الفولاذ؛ كي نمارس عمليّة نحت الأدلّة في سبيلها لاحقاً، والله من وراء القصد.