#يقولون: إنّ الفرزدق ـ الشّاعر المعروف ـ قدم إلى المدينة في سنة مُجدبة وكان ذلك في أيّام ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فقال أهل المدينة إلى أميرها: أيها الأمير، إنّ الفرزدق قَدِم مدينتنا في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامّة الأموال التي لأهل المدينة، وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعراً، فلو أن الأمير […]
#يقولون: إنّ الفرزدق ـ الشّاعر المعروف ـ قدم إلى المدينة في سنة مُجدبة وكان ذلك في أيّام ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فقال أهل المدينة إلى أميرها: أيها الأمير، إنّ الفرزدق قَدِم مدينتنا في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامّة الأموال التي لأهل المدينة، وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعراً، فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه، وتقدّم إليه ألا يعرّض لأحدٍ بمدح ولا هجاء ؛ فبعث إليه عمر بن عبد العزيز وقال له: إنّك يا فرزدق قَدِمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة، وليس عند أحد ما يعطيه شاعراً، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم؛ فخذها، ولا تعرّض لأحد بمدح ولا هجاء، فأخذها الفرزدق ومرّ في طريقه بعبد الله بن عمرو بن عثمان زوج فاطمة بنت الحسين الشّهيد “ع” وهو جالس في سقيفة داره وعليه رداء وجبّة خزّ ذاتا لون أحمر، فوقف عليه وقال:
#أعبد اللّه أنت أحقّ ماش• وساع بالجماهير الكبار
#نما الفاروق أمّك وابن أروى•أبوك فأنت منصدع النّهار
#هما قمرا السماء وأنت نجم• به في الليل يدلج كلّ سار
#وهل فِي الناس من أحد يساوي • يدك إِذَا تنوزع للفخار
#كلا أبويك عبد اللّه بر• رفيع في المنازل والديار
#ويعني من الفاروق الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب جدّ عبد الله لأمّه، ويعني من ابن أروى: الخليفة الثّالث عثمان بن عفّان جدّه لأبيه… وبعد سماع حفيد الخليفتين لهذه الأبيات: خلع عليه جبته ورداءه والعمامة، ودعا له بعشرة آلاف درهم، فسمع ذلك عمر بن عبد العزيز، فبعث إليه وقال: أ لم أتقدّم إليك يا فرزدق أ لا تعرّض لأحد بمدح و لا هجاء؟! اخرج من المدينة فقد أجلتك ثلاثة أيّام؛ فإن وجدتك بعدها نكّلت بك، فخرج الفرزدق وهو يقول:
#توعّدني وأجلني ثلاثاً• كما وعدت لمهلكها ثمود. [الأغاني: ج21، ص263].
#ويروى أيضاً: «حجّ هشام بن عبد الملك في أيّام خلافة الوليد أخيه، ومعه رؤساء أهل الشامّ، فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، وأقبل علي بن الحسين “ع” وهو أحسن الناس وجهاً، وأنظفهم ثوباً، وأطيبهم رائحةً، فطاف بالبيت، فلما بلغ الحجر الأسود تنحّى الناس كلّهم وأخلوا له الحجر ليستلمه، هيبةً وإجلالاً له، فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح اللّه الأمير؟ قال: لا أعرفه، وكان به عارفاً، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق وكان لذلك كلّه حاضراً: أنا أعرفه، فسلني يا شاميّ. قال: ومن هو؟ قال:
#هذا الذي تعرف البطحاء وطأته • والبيت يعرفه والحلّ والحرم
#هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم• هذا التقيّ النقيّ الطّاهر العلم
#وهكذا إلى نهاية الأبيات السّبعة المعروفة، فحبسه هشام فقال الفرزدق:
#أ يحبسني بين المدينة والتي• إليها قلوب الناس يهوي منيبها
#يقلّب رأساً لم يكن رأس سيد• وعينا له حولاء باد عيوبها
#فبعث إليه هشام فأخرجه، فوجّه إليه عليّ بن الحسين “ع” عشرة آلاف درهم، وقال: اعذر يا أبا فراس [وهي كنية الفرزدق]، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به. فردّها الفرزدق وقال: ما قلت ما كان إلا لله، وما كنت لأرزأ عليه شيئاً. فقال له السّجاد “ع”: قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنّا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه. فأقسم عليه فقبلها». [الأغاني: ج15، ص217].
#أقول: سواء أ صحّت هذه الحكايات أم لم تصحّ، فإنّ أصل الأبيات المادحة لحفيد عليّ “ع” وحفيد عثمان مثبّتة ومرويّة في الكتب المختصّة بهذه الأمور [بغضّ الطّرف عن الأبيات الإضافيّة الزّائدة الّتي وقع الخلاف في إضافتها لقصيدة الفرزدق في مدح السجّاد “ع”]، لكن غرضي من نقل هذه القصّص والحكايات والأبيات هو الإشارة إلى الانتقائيّة الّتي يمارسها الإنسان المذهبي في عرض ما ينفعه ويهمل ما لا ينفعه من أبيات شعريّة لكي يصوّر الواقع المجتمعي والفردي في تلك المرحلة الزّمنيّة بالقالب المذهبي الّذي تربّى خطأً عليه… وما أكثر أمثال الفرزدق ـ بصورته المعاصرة ـ في حوزاتنا العلميّة المكرّمة؛ حيث التنقّل من ولاء مرجعيّة إلى أخرى تبعاً للزّاد والرّاحلة، ولله في خلقه شؤون وشؤون.